لماذا يتصاعد التنافس على غرينلاند؟
23:56 - 14 يناير 2025تمثل جزيرة غرينلاند واحدة من أبرز النقاط الجيوسياسية الساخنة في العالم اليوم، حيث تتشابك المصالح الاقتصادية والعسكرية والبيئية في تنافس عالمي متسارع.
وتقع الجزيرة في موقع استراتيجي بين أميركا الشمالية وأوروبا، وتعتبر أكبر جزيرة في العالم، وتتميز بموارد طبيعية هائلة مثل المعادن النادرة والنفط والغاز الطبيعي، مما يجعلها محط أنظار القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
ومع تسارع ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد القطبي، برزت غرينلاند كمنطقة واعدة لاستغلال الموارد المدفونة تحت طبقات الجليد، بالإضافة إلى فتح طرق ملاحية جديدة تختصر المسافات بين الأسواق العالمية.
إلى جانب الأبعاد الاقتصادية، تحمل غرينلاند أهمية عسكرية استراتيجية، خاصة للولايات المتحدة التي تمتلك قاعدة عسكرية في ثول شمال الجزيرة، ما يجعلها درعاً حيوياً للأمن القومي الأميركي في مواجهة روسيا والصين، اللتين تسعيان لتعزيز حضورهما في القطب الشمالي.
وبالنسبة للدنمارك، التي تتمتع بسيادة على الجزيرة، يشكل التنافس الدولي تهديداً لهيمنتها على موارد غرينلاند وموقعها الاستراتيجي.
هذا التداخل بين المصالح الاقتصادية والسياسية يجعل غرينلاند محوراً للتنافس الدولي الذي قد يعيد تشكيل خريطة القوى في المنطقة القطبية.
ماذا يريد ترامب؟
في هذا السياق جدد الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، الرغبة في تأمين السيطرة على جزيرة غرينلاند، وقال إنه لن يستبعد استخدام القوة العسكرية.
وتقع غرينلاند إلى الشمال الشرقي من كندا، وهي أكبر جزيرة في العالم، لكن عدد سكانها لا يتجاوز 60 ألف نسمة، وهي منطقة شبه مستقلة تابعة لمملكة الدنمارك، ولها حكومتها المنتخبة.
موقعها بين الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا يجعلها استراتيجية للأغراض الاقتصادية والدفاعية - خاصة وأن ذوبان الجليد البحري فتح طرق شحن جديدة عبر القطب الشمالي . كما أنها أيضاً موقع لقاعدة عسكرية أميركية.
وقال ترامب، الأسبوع الماضي: "نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي.. أنا أتحدث عن حماية العالم الحر.. انظر إلى الخارج : هناك سفن صينية في كل مكان، وهناك سفن روسية في كل مكان.. لن نسمح بحدوث ذلك".
في هذا السياق، نقلت شبكة "سي بي إس نيوز" عن الأستاذ المساعد بجامعة كوبنهاغن، فرانك سيجيرسن، قوله: "لدى الأميركيين اهتمام قوي بمراقبة أنشطة الدول الأجنبية في غرينلاند؛ لأنها تُعد ذات أهمية استراتيجية كبيرة للأمن القومي للدول الأخرى. ولهذا السبب، قد يُنظر إلى أي استثمار أو نشاط فيها، من وجهة النظر الأميركية، على أنه يشكل تهديداً أمنياً".
وقالت المحامية المتخصصة في مجال حقوق الإنسان في غرينلاند، بيرنيل بنجامينسن: "إن العلاقات بين الحكومة شبه المستقلة في الإقليم والحكومة الدنماركية أصبحت متوترة في السنوات الأخيرة، وقد يحاول ترامب الاستفادة من ذلك".
وبينما تحتوي غرينلاند أيضاً على النفط والغاز الطبيعي والموارد المعدنية المطلوبة بشدة، فقد ذكر وكيل وزارة الخارجية الأميركية للنمو الاقتصادي والطاقة والبيئة، خوسيه فرنانديز، أن هذه الموارد المعدنية، التي تشمل عناصر أرضية نادرة، "لم يتم استكشافها وتطويرها إلا بشكل طفيف".
تحتوي غرينلاند على احتياطيات كبيرة من المعادن، بما في ذلك الليثيوم والجرافيت، وكلاهما مطلوب لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية.
ومن المرجح أن تجذب هذه الرواسب اهتمام الرئيس التنفيذي لشركة تسلا إيلون ماسك، الذي أصبح مستشاراً مقرباً لترامب بعد تقديم أكثر من 270 مليون دولار العام الماضي لدعم ترشيحه وترشيحات الجمهوريين الآخرين.
موقع فريد
من جانبه، يقول مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، أبوبكر الديب، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يُظهر اهتماماً استراتيجيًا بضم جزيرة غرينلاند؛ نظراً لموقعها الجغرافي الفريد ومواردها الطبيعية الغنية، موضحاً أن الجزيرة، التي تقع على الطريق الأقصر بين أوروبا وأميركا الشمالية، تمثل موقعاً استراتيجياً لتحذير الولايات المتحدة من الصواريخ الباليستية، بالإضافة إلى كونها غنية بالموارد الهيدروكربونية.
وأشار الديب في الوقت نفسه إلى أن غرينلاند هي أكبر جزيرة في العالم بمساحة تفوق دولًا كالمكسيك، تتبع الدنمارك منذ 600 عام، لكنها تتمتع بالحكم الذاتي. ورغم الظروف المناخية القاسية فيها، إلا أن موقعها الجغرافي بين المحيط الأطلسي الشمالي وأميركا الشمالية يجعلها محط أنظار الولايات المتحدة لتعزيز وجودها العسكري، من خلال إنشاء رادارات لمراقبة المياه بين غرينلاند وآيسلندا وبريطانيا، التي تُعد بوابة استراتيجية للسفن والغواصات الروسية.
ويضيف: هذه ليست المرة الأولى التي يعبر فيها ترامب عن رغبته في السيطرة على أراضٍ جديدة.
فمنذ فوزه الأخير، كرر رغبته بضم أراضٍ مثل كندا وقناة بنما، مما يعكس طموحاته لتوسيع نفوذ الولايات المتحدة وتعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية. ويزعم ترامب أن هذه الخطوات ستزيد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد إلى 30 تريليون دولار، بجانب تعزيز التكامل الاقتصادي والجغرافي للأمة الأميركية.
ورغم الرفض القاطع من الدول المعنية، بما في ذلك كندا وغرينلاند، إلا أن ترامب لا يزال متمسكاً بموقفه، ملوحاً باستخدام القوة الاقتصادية، وحتى العسكرية في حالة الضرورة، لتحقيق أهدافه.
وفي غرينلاند، شددت السلطات المحلية على أن مستقبل الجزيرة يقرره سكانها فقط.
على الصعيد الدولي، قوبلت تصريحات ترامب بإدانة من فرنسا وألمانيا، حيث أكدت باريس رفضها لأي محاولة اعتداء على الحدود الأوروبية، بينما شددت برلين على أن تغيير الحدود بالقوة أمر غير مقبول. من جانبه، وصف وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، فكرة ترامب بضم غرينلاند بأنها "غير واقعية على الإطلاق"، مؤكدًا أنها لن تتحقق.
ويرى أبوبكر الديب أن هذه التحركات تُظهر طموحات ترامب الإمبراطورية، لكنها ستواجه تحديات قانونية وسياسية واقتصادية، خاصة مع رفض المجتمع الدولي لمثل هذه التصرفات.
الخلفية التاريخية
بحسب تقرير لـ Theconversation، فإن:
- ترامب لا يعد أول سياسي أميركي يحاول السيطرة على غرينلاند؛ إذ تعود أقدم محاولة موثقة لشراء الجزيرة إلى العام 1868.
- آخر جهد جدي قبل ترامب هو ذلك الذي قامت به حكومة الرئيس هاري ترومان في العام 1946.
- وبالتالي فإن الاهتمام المتجدد لترامب بغرينلاند يندرج ضمن تقليد طويل من الجهود الأميركية للتوسع الإقليمي.
وتتمتع غرينلاند بثروة استثنائية بما يسمى "المعادن النادرة"، ووفقاً لتقرير صدر في العام 2024 في مجلة الإيكونوميست، فإن الجزيرة لديها رواسب معروفة من 43 من أصل 50 من هذه المعادن.
ووفقاً لوزارة الطاقة الأميركية ، فإن هذه المعادن ضرورية "للتقنيات التي تنتج وتنقل وتخزن وتحافظ على الطاقة" ولديها "خطر كبير من تعطيل سلسلة التوريد".
من المؤكد أن هذا الأمر يشكل مصدر قلق مشروع نظراً لأن الصين ــ المورد الرئيسي للعديد من المعادن الحيوية للأسواق العالمية ــ كانت تزيد القيود على صادراتها كجزء من حرب تجارية مستمرة مع الولايات المتحدة.
ومن شأن الوصول إلى موارد غرينلاند أن يمنح واشنطن مزيدًا من الأمن لسلسلة التوريد ويحد من أي نفوذ قد تستخدمه الصين.
كما أن الموقع الاستراتيجي لغرينلاند يجعلها ذات قيمة كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة، حيث تعد القاعدة الأميركية القائمة هناك أساسية للإنذار المبكر والدفاع الصاروخي الأميركي وتلعب دوراً حاسماً في مراقبة الفضاء. كما أن التوسع المستقبلي للقاعدة من شأنه أن يعزز قدرات الولايات المتحدة على مراقبة التحركات البحرية الروسية في المحيط المتجمد الشمالي وشمال الأطلسي.
وبحسب تقرير المجلة، فإن السيادة الأميركية على غرينلاند، إذا تم تمرير صفقة ترامب، من شأنها أن تمنع بشكل فعال أي تحركات من جانب المنافسين، وخاصة الصين ، للحصول على موطئ قدم في الجزيرة. وقد يكون هذا أقل إثارة للقلق إذا ظلت غرينلاند جزءاً من الدنمارك، العضو في حلف شمال الأطلسي، والتي أبقت الجزيرة طافية اقتصادياً بمنحة سنوية تبلغ حوالي 500 مليون دولار أميركي.
هدف استراتيجي
من برلين، يشير خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن جزيرة غرينلاند تُعد هدفاً استراتيجياً رئيسياً للدول الكبرى؛ نظراً لموقعها الجغرافي الفريد ومواردها الطبيعية الغنية، مضيفاً: غرينلاند، الواقعة في القطب الشمالي، تُشكل بوابة استراتيجية بين أميركا الشمالية وأوروبا، مما يجعلها محط اهتمام عالمي.
ويوضح الخفاجي أن أبرز الأسباب وراء هذا الاهتمام تتلخص في:
الموقع الجغرافي والأهمية العسكرية:
- تضم غرينلاند قاعدة "ثول الجوية"، التي تُعد جزءاً حيوياً من منظومة الدفاع الصاروخي الأميركي، حيث تُستخدم للتصدي للصواريخ العابرة للقارات.
- قربها من الطرق البحرية الجديدة، التي يقلل ذوبان الجليد فيها المسافة بين آسيا وأوروبا بنحو 40 بالمئة.
الموارد الطبيعية:
تحتوي غرينلاند على 38.5 مليون طن من المعادن النادرة، الضرورية للتكنولوجيا والطاقة المتجددة، مثل:
- النيوديميوم: يُستخدم في صناعة المغناطيسات لتوربينات الرياح والمحركات الكهربائية.
- التيربيوم: يُستخدم في شاشات الهواتف الذكية وشاشات العرض.
- تملك غرينلاند أيضاً احتياطيات كبيرة من اليورانيوم، المستخدم كوقود للمفاعلات النووية وتوليد الطاقة.
ويشير إلى أن السيطرة على غرينلاند تتيح تقليل الاعتماد على الصين، التي تُهيمن حالياً على إنتاج 70 بالمئة من المعادن النادرة عالمياً. كما تحتوي المنطقة على احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، وتوفر فرصاً كبيرة لمصائد الأسماك نتيجة لذوبان الجليد.
ويؤكد أكد الخفاجي أيضاً أن التغير المناخي يقدم فرصاً جديدة، مثل فتح طرق بحرية جديدة والوصول إلى موارد مدفونة تحت الجليد، مشيراً إلى أن المنطقة تشهد تنافساً حاداً بين الدول الكبرى، وأن هذا التنافس بلغ ذروته عام 2019، حينما اقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب شراء غرينلاند لتعزيز النفوذ الأميركي وتقليل الاعتماد على الصين، وهو عرض قوبل بالرفض من الدنمارك.
ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، قد يُجدد هذا الطرح، حتى لو تطلب الأمر إجراءات حازمة.
ويختتم حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" بالإشارة إلى أن غرينلاند تمثل محوراً للصراعات الجيوسياسية والاقتصادية، وأن موقف ترامب يعكس تحولاً في أولويات السياسة الأميركية نحو تعزيز النفوذ في القطب الشمالي، بما يحقق مكاسب استراتيجية واقتصادية للولايات المتحدة.