كيف تؤثر موجات مغادرة الأثرياء على الاقتصاد البريطاني؟
11:36 - 25 يونيو 2024سلط تقرير لصحيفة "فاينانشال تايمز" الضوء على خطط عديد من الأثرياء الأجانب لمغادرة المملكة المتحدة، في ضوء جملة من المخاوف المرتبطة بالسياسات الضريبية، في هذا البلد الذي كان يعد مركز الأعمال المفضل بالنسبة للأغنياء.
وتقول أعداد متزايدة من الأجانب الأثرياء إنهم يغادرون المملكة المتحدة رداً على إلغاء نظام non-dom "غير المقيمين"، وهو نظام كان يسمح لهم بتجنب دفع الضرائب على الدخل في الخارج.
وأسهم هذا التغيير - المدعوم من حزبي المحافظين والعمال على حدو سواء- في انخفاض نسبي في جاذبية المملكة المتحدة، وفقاً لأكثر من 12 مقابلة مع أجانب أثرياء ومستشاريهم، وفق الصحيفة.
تشمل العوائق الأخرى المذكورة عدداً من الأسباب الأخرى، من بينها:
- خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
- عدم الاستقرار المالي والسياسي.
- المخاوف المتعلقة بالأمن.
ونقل التقرير عن رجل أعمال ملياردير يعيش في لندن منذ 15 عاماً وينقل الآن إقامته الضريبية إلى أبوظبي، قوله: "لقد حدث خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووعد المحافظون بجعل المملكة المتحدة مثل سنغافورة، وبدلا من ذلك حولوا هذا المكان إلى بيلاروسيا.. أصبح الأمن الآن قضية رئيسية وعاملاً آخر إلى جانب الأسباب الضريبية وراء رغبة الناس في المغادر".
وفي مارس، أعلن وزير الخزانة البريطاني المستشار جيريمي هانت، إلغاء نظام غير المقيمين (الإعفاء الضريبي الذي كان يتمتع به كثير من الأثرياء الذين فضلوا الإقامة في بريطانيا، مع الاعتماد على مصادر دخل خارجية). مستعيراً بذلك إحدى السياسات المالية الرئيسية لحزب العمال المعارض.
كما نقلت الصحيفة عن رجل أعمال أوروبي غير مقيم في الخمسينيات من عمره، والذي ينقل عائلته من لندن إلى سويسرا بعد أكثر من عقد من الزمن في المملكة المتحدة، قوله: "إن ضريبة الميراث التي تفرضها المملكة المتحدة بنسبة 40 بالمئة على أصولك العالمية تمثل مشكلة حقيقية.. إن عدم الاستقرار العام هو الذي كان بمثابة المسمار الأخير بالنسبة لي.. لو كانت هناك ضريبة ميراث أكثر توازنا وأقل عقابا، ربما كنت سأفكر في البقاء".
وبينما التزم حزب العمال بعدم زيادة ضريبة الدخل أو التأمين الوطني أو ضريبة الشركات أو ضريبة القيمة المضافة، يصر الحزب على أنه ليس لديه "خطط" لزيادة ضريبة أرباح رأس المال أو ضريبة الميراث أو فرض أي شكل من أشكال ضريبة الثروة، لكنه يرفض استبعادها.
عناصر الجذب المفقودة
من جانبه، يعدد مدير المركز العالمي للدراسات التنموية والاقتصادية، صادق الركابي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أسباب خروج عدد كبير من الأثرياء من بريطانيا في السنوات الخمس الأخيرة على وجه التحديد، على النحو التالي:
- خسارة الاقتصاد البريطاني لعناصر الجذب مقارنة مع الاقتصادات الأخرى ذات الضرائب المنخفضة، حيث يسعى الأثرياء إلى الانتقال إلى دول ذات أنظمة ضريبية أكثر مرونة تحافظ على ثرواتهم.
- تعقيد بعض القوانين والتشريعات التي تجعل بيئة الأعمال مقيدة وأقل قدرة على التكيف مع متطلبات المحافظ المالية الكبيرة.
- أضاف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مزيداً من الأعباء على الأثرياء، بعد أن رفع ذلك من حالة عدم اليقين حول الاستقرار الاقتصادي والتجاري بالنسبة للمملكة المتحدة.
- تراجع قيمة الجنيه الاسترليني وعدم قدرة السياسات الحكومية على جذب الاستثمارات.. عوامل نتج عنها تراجع قيمة الأصول بالنسبة لعديد من الأثرياء.
ويضيف: "يفضل بعض الأثرياء العيش في مناخ معتدل مع نمط حياة أكثر راحة و هو ما أصبح أمراً مفقوداً في عديد من الدول الأوروبية"، مشيراً في الوقت نفسه إلى رغبة كثير من الأثرياء في البحث عن مكان أكثر أمناً واستقراراً، خصوصاً مع تراجع مستوى الخدمات بسبب الحالة الاقتصادية غير المستقرة مع مخاوف اتساع نطاق الحرب في أوكرانيا.
كما يلفت في الوقت نفسه إلى التغيرات العديدة التي حدثت على الصعيد السياسي البريطاني من تغيير رؤساء الوزراء خلال فترة قصيرة و الدعوة لانتخابات مبكرة، فضلاً عن "المستقبل الغامض للاقتصاد البريطاني" الذي بدا واضحاً منذ الإعلان عن الخروج من الاتحاد الأوروبي ثم جائحة كورونا وعدم القدرة على تقليص الدين العام وزيادة الايرادات، ومن ثم الاقتصاد ما يزال مترنحاً من دون أية رؤية أو أهداف واضحة.
ويتوقع مدير المركز العالمي للدراسات التنموية والاقتصادية ،أن يكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مردود سلبي أوسع على الاقتصاد خلال السنوات الخمس المقبل، وبما يتضمن:
- خروج المحافظ المالية وعدم رغبة الأثرياء بالاستثمار في الاقتصاد البريطاني، ما سيؤدي إلى مزيد من التراجع في الإيرادات، وبما يؤثر في قدرة الحكومة على تمويل الخدمات العامة والبنية التحتية.
- يعزز وجود الأثرياء الطلب على العقارات والسلع والخدمات الفاخرة، لذا فإن مغادرتهم ستخفض الطلب بما يؤثر سلباً على الشركات التي تعتمد على هذا النوع من العملاء.
ويشدد على ضرورة وضع الحكومات البريطانية القادمة خارطة طريق لها أهداف واضحة مع اتخاذ تدابير جادة؛ لتحسين مناخ الأعمال وتقديم حوافز ضريبية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي ومنع فقدان المزيد من الثروات والمواهب.
تقرير الصحيفة البريطانية نقل عن مدير شركة جلينتري بروبرتيز، وهي وكالة عقارية في لندن، تريفور أبراهمسون، قوله إن هناك انخفاضًا مستمرًا في الاستفسارات عن العقارات التي تبلغ قيمتها 10 ملايين جنيه إسترليني، وهو ما عزاه إلى "ارتفاع أسعار الفائدة والتغييرات المتوقعة في نظام غير المقيمين". وأضاف: "مع طرح المزيد من العقارات الفاخرة في السوق، أتوقع أن يكون هناك عدد أقل من المشترين وأن تنخفض الأسعار".
مركز الأعمال المفضل
لكن على الجانب الآخر، يرى الرئيس التنفيذي في مركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، طارق الرفاعي، أن بريطانيا لازالت المركز العالمي المفضل لكثير من الأثرياء الذين يتسابقون على وجود مقر لهم في هذه الدولة المهمة.
ويضيف الرفاعي في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": المطالب الحالية بفرض المزيد من الضرائب على هؤلاء الأثرياء خلقت حالة سلبية بالنسبة لهذه الفئة الهامة للاقتصاد البريطاني، وهذا ما ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد خلال السنوات المقبلة.
وفي سياق متصل، نقلت فاينانشال تايمز عن الملياردير الهندي أدار بوناوالا، قوله إن التغييرفي نظام غير المقيم أضر بالمملكة المتحدة، مردفاً: "بعض الناس على استعداد لدفع هذه التكلفة مثلي، لكن معظم الآخرين ليسوا كذلك.. إنهم يمكنهم الخروج بسهولة."
وكان هناك 68800 فرد يطالبون بوضع غير مقيم في إقراراتهم الضريبية في العام 2022، وفقا لأحدث التقديرات الصادرة عن وكالة الضرائب البريطانية HM Revenue & Customs.
وقالت الشريكة في شركة الضرائب والمحاسبة بليك روتنبرغ، فيونا فيرني: "لا توجد بيانات دقيقة وسريعة عن مغادرة غير المقيمين، لكن هناك ضجة حقيقية في الوقت الحالي حول الأشخاص الذين يفكرون في المغادرة والذهاب فعلياً".
كما ذكر أحد المستثمرين الفرنسيين في الأربعينيات من عمره أن "أي أجنبي في المملكة المتحدة لديه خيار المغادرة، يفعل ذلك بسبب نهاية النظام المذكور"، وأنه سينتقل من لندن إلى ميلانو في أوائل العام المقبل، بعد أن جذبه النظام الذي أعلنته إيطاليا في العام 2017 والذي يعفي الدخل الأجنبي من الضرائب الإيطالية مقابل دفع 100 ألف يورو سنويا.
وتعد إيطاليا وسويسرا ومالطا والشرق الأوسط الوجهات الأكثر شعبية حاليًا لأولئك الذين يغادرون المملكة المتحدة، وفقًا للمستشارين الذين تحدثت معهم الصحيفة البريطانية.
أين يتجه الأثرياء؟
من لندن، يرجع الخبير الاقتصادي المتخصص في اقتصادات الطاقة، نهاد إسماعيل، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أسباب موجة نزوح الأثرياء الأجانب من لندن، إلى عدد من العوامل، منها:
- إلغاء الحكومة الحالية في أبريل 2024 إعفاءات ضريبية كان يستفيد منها الأثرياء المصنفين بما يسمى Non-Dom أي يعيش في بريطانيا ولكن مصنف بغير مقيم.
- الخوف من حكومة عمالية ترفع نسب الضرائب حال فوزها في الانتخابات المقبلة.
- حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
ويذكر أن هناك حوالي 69 ألف ثري يتمتعون بالإعفاءات بسبب تصنيفهم " Non-Dom"، حسب بيانات دائرة الضرائب البريطانية.
ويتوقع إسماعيل أن يتبنى حزب العمال هذه السياسة إذا نجح في الانتخابات المرتقبة، مشيراً إلى أن الحزب وعد خلال الحملة الانتخابية بعدم رفع ضرائب الشركات وضريبة القيمة المضافة، ولكن في الوقت نفسه سيعمل على سد ثغرة الإعفاء الضريبي للأثرياء.
ويستطرد: "تاريخياً حزب العمال يستخدم جمع وزيادة الضرائب كسلاح لتمويل الخدمات العامة من صحة وتعليم والرعاية الاجتماعية".
وبالتالي يتوقع إسماعيل أن تشهد دول مثل سويسرا وإسبانيا وإيطاليا والإمارات العربية المتحدة والبلدان الأوروبية التي تتميز بضرائب منخفضة ارتفاع معدل الإقبال عليها من قبل هذه الفئات (الأثرياء الذين يغادرون لندن).
ويقول إسماعيل إنه "في الفترة بين 2017 و 2023 غادر بريطانيا 16500 مليونير، ولكن عدد كبير آخر يفضلون البقاء في بريطانيا لأسباب تتعلق بأسلوب الحياة والخدمات والحريات".
آثار سلبية
ويرصد عضو المجلس الاستشاري لمعهد الأوراق المالية والاستثمار البريطاني في دبي، وضاح الطه، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، تداعيات هروب الأثرياء من لندن، وهو الهروب الذي يُرجعه إلى عاملين رئيسيين، وهما:
- تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي يعتبر بمثابة بداية تخارج هذه الأموال.
- تراجع معدلات النمو وارتفاع التضخم.
ويشدد الطه على أن هذا التسرب للاستثمارات سيعود بالضرر على الاقتصاد البريطاني على المدى المتوسط والطويل، وأنه سيكون من الصعب على بريطانيا استرداد مكانتها التي كانت عليها في السنوات الماضية في فترة قصيرة بل قد يستغرق الأمر سنوات.
ويؤكد الخبير الاقتصادي على أن الحكومة البريطانية المقبلة إذا شخصت هذه المعضلة بشكل صحيح فهي مطالبة بإعداد برنامج جاذب للاستثمارات الأجنبية، متوقعاً أن يكون هناك إحلال جزئي للاستثمارات المتخارجة بأخرى من أصحاب الثروات من الدول النامية.
ويعتبر أن دولة الإمارات العربية ستكون أكثر الدول جذباً لهذه الاستثمارات الهاربة من بريطانيا، خصوصاً وأن الاستثمارات الأجنبية المباشرة بها شهدت طفرة من النمو في 2023، مرجعًا ذلك إلى عدة أسباب:
- البنية التحتية القوية.
- النظام المصرفي القوي.
- البنية القانونية المشجعة للاستثمار.
- تشجيع المواهب على البقاء في الإمارات.
- سرعة الاستجابة الحكومة للمتغيرات الدولية والتكيف معها.