هل تصبح لندن ملاذاً للفارين من سياسات ترامب؟
07:02 - 24 مارس 2025تستقطب سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المثيرة للجدل اهتمام المستثمرين الدوليين وتثير مخاوفهم، وتدفع بمزيد من التساؤلات حول تأثيرها على مستقبل الأسواق العالمية.
مع تصاعد الحمائية التجارية واضطراب أسواق المال الأميركية، تتجه الأنظار إلى عديد من الوجهات الأخرى، من بينها المملكة المتحدة، كوجهة محتملة لرأس المال الباحث عن الاستقرار.. فهل يمكن أن تصبح لندن ملاذاً مالياً بديلاً؟
مساعد رئيس تحرير صحيفة "ديلي تلغراف"، جيريمي وارنر، يقول في مقال له بالصحيفة ذاتها تحت عنوان "هل يمكن أن تصبح المملكة المتحدة مستفيداً مالياً مفاجئاً من فوضى ترامب؟" إن ""فقدان المستثمرين الدوليين للثقة في قوة الدولار قد يدفعهم للبحث عن بدائل، والجنيه الإسترليني قد يكون خياراً جيداً".
لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن:
- هذا الطرح قد يبدو غريباً بالنظر إلى الرواية المتشائمة التي تخيم على الاقتصاد البريطاني منذ بريكست، بل إن التوقعات لا تشير حتى إلى أي بوادر تحسن.
- على العكس، تسير الأمور نحو مزيد من التراجع، إذ من المتوقع أن تخفض "هيئة مسؤولية الميزانية" توقعاتها للنمو هذا العام إلى 1 بالمئة فقط في بيان الربيع يوم الأربعاء.
- كما أن المالية العامة تعاني من تدهور متزايد، مما يجبر وزيرة الخزانة، راشيل ريفز، على البحث عن أكثر من 10 مليارات جنيه إسترليني من التخفيضات الإضافية في الإنفاق للبقاء ضمن قواعدها المالية.
- إذا كان النمو قد تعثر، فإن التضخم في المقابل يشهد ارتفاعاً، ما يخلق بيئة ركودية تضخمية كلاسيكية تضع بنك إنجلترا في مأزق بشأن الاتجاه الذي يجب أن يسلكه فيما يتعلق بأسعار الفائدة.
- قد يلجأ صناع السياسة إلى خفض الفائدة إذا نظروا فقط إلى آفاق النمو، لكنهم سيرفعونها إذا ركزوا على التضخم، حيث تميل الضغوط الفورية إلى الارتفاع بقوة.
- لا شك أن التوقعات الجديدة للنمو ستثير جدلًا حادًا حول ما إذا كانت العوامل الدولية أم سياسات الحكومة البريطانية هي السبب وراء هذا الوضع الاقتصادي الكئيب.
ويشدد على أن "العوامل الدولية"، وعلى رأسها المخاوف من مزيد من التشرذم في الاقتصاد العالمي نتيجة الحرب التجارية التي يخوضها ترامب، تلقي أيضاً بظلال ثقيلة على المشهد الاقتصادي.
وقد خفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) توقعاتها للنمو في جميع الاقتصادات تقريباً خلال تحديثها الأخير، رغم أن أداء المملكة المتحدة بدا أقل سوءاً مقارنة بمعظم الدول الأخرى. ومع ذلك، تبقى المؤشرات مقلقة.
لماذا إذن يتجه المستثمرون نحو المملكة المتحدة؟
يقول وارنر إن "كل شيء نسبي، وفي منافسة بين الأسوأ، فإن الأقل سوءًا هو من يفوز"، وذلك رداً على السؤال الذي طرحه بخصوص الأسباب التي قد تدفع المستثمرين نحو المملكة المتحدة.
- سياسياً واقتصادياً، تبدو بريطانيا أكثر استقراراً من معظم الدول الأخرى.
- كما أن السير كير ستارمر يروج لخطاب إيجابي بشأن إزالة القيود والإصلاح، حتى لو لم يكن حزبه مهيأً بطبيعته لتنفيذ هذه الأهداف الطموحة بشكل عملي.
- حزمة الإصلاحات الاجتماعية الأخيرة كانت بعيدة كل البعد عن المستوى المطلوب لإعادة بريطانيا إلى مسارها الإنتاجي، إلا أن الرسائل العامة تبعث على التفاؤل.
- في مؤشر على هذا القبول، ارتفع مؤشر FTSE 100 البريطاني بنسبة 7 بالمئة منذ فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر الماضي، بينما تراجع مؤشر S&P 500 بنحو 5 بالمئة. كما أن الجنيه الإسترليني شهد ارتفاعاً مطرداً أمام الدولار منذ بداية العام.
ويلفت إلى أنه لا يمكن اعتبار هذه التحركات حتى الآن تغييراً حاسماً في المشهد الاقتصادي. وإذا كانت تحمل أي دلالة، فهي تعكس النفور من سياسات ترمب الاقتصادية أكثر من كونها تصويتاً بالثقة في الاقتصاد البريطاني.
وعملياً لا تزال المملكة المتحدة تواجه تحديات استثنائية، إذ يقترب الدين العام من 100 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن العجز المالي المزمن سيفرض إصدار سندات حكومية بمستويات شبه قياسية خلال العام المقبل.
لكنه في الوقت نفسه يطرح سؤالاً: "أين يمكن توجيه الاستثمارات إذا كانت إدارة البيت الأبيض تستعد للتخلي عن سياسة الدولار القوي التي تبنتها الولايات المتحدة تقليدياً؟"، مجيباً: في هذه الحالة، قد يبدو سوق السندات البريطانية خياراً لا بأس به، ما يجعلها في موقع جيد للاستفادة من هروب رؤوس الأموال من الدولار.
ورغم أن حجم سوق السندات البريطانية لا تقارن بسوق السندات الأميركية، إلا أنها تتميز بسيولة عالية وتحظى بحماية قانونية صلبة.. "وإذا كان علينا المقارنة، فإن التزام بنك إنكلترا باستقرار الأسعار يبدو أكثر رسوخاً من نظيره في الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي تتعرض استقلاليته لضغوط مستمرة من إدارة ترمب".
- على الرغم من هشاشة الوضع البريطاني، فإن احتمالية التخلف عن السداد شبه معدومة.
- في هذا الصدد، تتمتع المملكة المتحدة بسجل نادر من الانضباط المالي بين الدول الكبرى المقترضة.
وفيما يتعلق بـ "قوة الدولار"، يشير إلى أنه "قد لا يُزاح الدولار تماماً عن عرشه، على الأقل ليس في المستقبل المنظور، لكن السياسات الأميركية الخاطئة قد تفتح فرصاً غير متوقعة أمام بريطانيا".. وما هو مؤكد أن سوق السندات البريطانية، في ظل الدين العام المتضخم إلى مستويات تشبه زمن الحروب، يحتاج إلى كل دعم ممكن.
من لندن، يقول الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات، طارق الرفاعي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن المملكة المتحدة ربما تستفيد في هذا السياق لكن في سيناريوهات محددة، على النحو التالي:
أولاً- إعادة تنظيم التجارة
إذا أدت رسوم ترامب الجمركية إلى نفور الاتحاد الأوروبي والصين، فقد تُصبح المملكة المتحدة بمثابة "جسر محايد" للشركات التي تسعى للوصول إلى الأسواق الغربية دون عبء الرسوم الجمركية - ولكن فقط إذا أبرمت المملكة المتحدة اتفاقيات ثنائية مواتية مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ثانياً- تعزيز الخدمات المالية
قد تستفيد لندن من عدم الاستقرار بأن تصبح "ملاذاً آمناً" لرأس المال، خاصة إذا رأت الأسواق أن المملكة المتحدة أكثر استقراراً من الولايات المتحدة أو أجزاء من أوروبا.
قد يجذب النظام التنظيمي المرن في المملكة المتحدة شركات التكنولوجيا المالية أو العملات المشفرة أو الاستثمار الأميركية أو الآسيوية، متجنبةً بذلك النزاعات التنظيمية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ثالثاً- العملات والاستثمار الأجنبي
إذا ظل الجنيه الإسترليني ضعيفاً بينما ارتفع الدولار الأميركي بسبب الرسوم الجمركية، فقد تستفيد المملكة المتحدة من انخفاض أسعار الصادرات والسياحة والاستثمارات الوافدة.
كذلك قد تدفع سياسة ترامب الحمائية المستثمرين إلى تنويع استثماراتهم بعيداً عن الأصول الأميركية، وقد تستفيد المملكة المتحدة المستقرة والصديقة للأعمال التجارية من ذلك بهدوء.
لكنه يشير إلى أنه بشكل عام، فإن رسوم ترامب الجمركية تُشكل خطراً حقيقياً على الاقتصاد البريطاني على المدى القصير، وخاصةً بالنسبة للمصنعين والمصدرين. ولكن لا يزال بإمكان المملكة المتحدة تحقيق ميزة فريدة في ظل إعادة ترتيب التحالفات التجارية العالمية.
وفي حديثه أمام البرلمان يوم الأربعاء الماضي، قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر للسياسيين إنه يأمل أن تتمكن المملكة المتحدة من التهرب من سياسات ترامب التجارية الحمائية.
وأضاف: "أشعر بخيبة أمل لرؤية رسوم جمركية عالمية على الصلب والألومنيوم، لكننا سنتبع نهجاً عملياً.. نتفاوض على اتفاق اقتصادي يشمل، وسيشمل، الرسوم الجمركية إذا نجحنا، لكننا سنبقي جميع الخيارات مطروحة".
اتفاق تجاري
من لندن أيضاً، يؤكد الخبير الاقتصادي، أنور القاسم، أن المملكة المتحدة، بحكم علاقاتها التاريخية ومكانتها كأقرب حليف للولايات المتحدة، تسعى للاستفادة من هذه العلاقة في ظل الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي طالت حتى أقرب حلفائه.
ويوضح في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن بريطانيا، وعلى عكس القوى الكبرى التي سارعت إلى الرد على رفع الرسوم التجارية الأميركية، اختارت عدم التصعيد، مُبيناً أن الحكومة البريطانية، منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، تركز جهودها على التوصل إلى اتفاق تجاري (مع واشنطن) يُعد من الأفضل على مستوى العالم.
كما يشير في الوقت نفسه إلى أن الدوائر الاقتصادية في لندن ترى أن هناك إمكانية للتعاون مع الولايات المتحدة فيما يخص الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على واردات الصلب والألمنيوم، إلا أن الحكومة البريطانية أكدت مراراً أنها لن تبرم أي اتفاق تجاري لا يصب بشكل مباشر في مصلحتها الوطنية.
ويضيف القاسم: زيارة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الأخيرة إلى واشنطن قد تكون نقطة تحول مهمة في العلاقات بين البلدين، خاصة بعد أن سلم رسالة خاصة من الملك تشارلز الثالث إلى الرئيس ترامب، تتضمن دعوة رسمية وخاصة لزيارة المملكة. ويعتبر أن هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام علاقات اقتصادية وسياسية واعدة تعزز موقع بريطانيا على الساحة الدولية.
ضعف الاقتصاد البريطاني
وفي مذكرة صدرت يوم الجمعة، قال كبير الاقتصاديين في المملكة المتحدة لدى "كابيتال إيكونوميكس"، بول دايلز، إن البيانات الأخيرة كشفت عن ضعف الاقتصاد البريطاني حتى قبل أن يظهر التأثير الكامل لارتفاع الضرائب على الشركات وحالة عدم اليقين الجيوسياسي.
وانكمش الاقتصاد البريطاني بشكل غير متوقع بنسبة 0.1 بالمئة على أساس شهري في يناير، وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة يوم الجمعة الماضي.
وأضاف دايلز: "معظم هذا التراجع ليس سوى تصحيح للمكاسب غير المتوقعة التي سجلها الناتج المحلي الإجمالي في ديسمبر بنسبة 0.4 بالمئة على أساس شهري.. بعبارة أخرى، جعلت أرقام ديسمبر الاقتصاد يبدو أقوى مما هو عليه فعلياً، بينما أظهرت بيانات يناير أنه أضعف قليلًا. الحقيقة على الأرجح أن وتيرة النمو الأساسية تقترب من الصفر"، وفق ما نقلته شبكة "سي إن بي سي" الأميركية.
وأشار إلى أن الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الصلب والألمنيوم، رغم دخولها حيز التنفيذ هذا الأسبوع فقط، قد تكون قد أثرت بالفعل على الاقتصاد البريطاني.
وأوضح: "التراجع بنسبة 1.1 بالمئة على أساس شهري في الإنتاج الصناعي كان جزئياً بسبب انخفاض إنتاج المعادن بنسبة 3.3 بالمئة، وهو ما قد يكون مرتبطًا بالرسوم الجمركية، حيث كانت متوقعة منذ فترة."
قرارات اقتصادية
من جانبه، يشير المحلل والخبير في الشؤون البريطانية، مصطفى رجب، في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومنذ توليه رئاسة الولايات المتحدة، دأب على إصدار قرارات اقتصادية يصفها بـ"العشوائية وغير المدروسة"، دون الأخذ في الاعتبار ردود الفعل المحتملة على سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
ويشير إلى أن القرارات التي اتخذها ترامب تجاه كندا والمكسيك قوبلت بردود فعل فورية من الدولتين، تمثلت في تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، وهو ما تسبب في توتر العلاقات الاقتصادية معهما، موضحاً أن الموقف البريطاني من تلك السياسات كان مختلفاً، إذ اختارت الحكومة البريطانية التروي ودراسة الموقف قبل الرد، اتباعًا لنهجها الدبلوماسي المعتاد.
ويوضح رجب أن زيارة رئيس الوزراء البريطاني إلى الولايات المتحدة ولقائه بترامب لم تسفر عن نقاش فعلي حول هذه السياسات، فيما ظلت بريطانيا متحفظة في موقفها، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن الملك تشارلز وجه دعوة رسمية إلى ترامب لزيارة المملكة المتحدة، وكان يخطط لاقتراح اعتبار الولايات المتحدة "عضوا شرفياً" في رابطة الكومنولث.
ويؤكد أن العلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة تشهد حالة من التوتر، رغم محاولات بريطانيا المستمرة لإيجاد حلول دبلوماسية، مشيراً إلى أن زيارة ترامب المرتقبة إلى لندن ولقاءه المرتقب بالملك تشارلز والحكومة البريطانية قد تفتح باباً للتفاوض، لكن استمرار السياسات الاقتصادية الأحادية من جانب ترامب يهدد مستقبل العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
ويضيف: فرض رسوم جمركية جديدة من قبل الولايات المتحدة من شأنه التأثير سلباً على حجم التبادل التجاري، وقد يدفع الشركات البريطانية للبحث عن أسواق بديلة.. "المعاملة بالمثل تبقى الخيار الأخير لبريطانيا، لكن العلاقات ستظل متوترة ما لم يتراجع ترامب عن قراراته العشوائية".