هل تهدد شيخوخة السكان معجزة سنغافورة الاقتصادية؟
13:09 - 13 مارس 2025
تواجه سنغافورة، تلك الدولة الجزيرة التي لطالما كانت نموذجاً للمعجزة الاقتصادية، تحدياً ديموغرافياً غير مسبوق. فمع تسارع وتيرة شيخوخة السكان، يتوقع أن يصل عدد المسنين إلى ربع إجمالي السكان بحلول عام 2030، (6 ملايين إجمالي عدد السكان في عام 2024)، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول استدامة النموذج الاقتصادي الذي جعل من سنغافورة واحدة من أكثر الدول ازدهاراً في العالم.
في مواجهة هذا التحدي، تتجه سنغافورة إلى حلول مبتكرة، وفي مقدمتها الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إدارة رعاية المسنين. من أجهزة الاستماع التي تكشف السقوط إلى الروبوتات التي تساعد في التمارين الرياضية، تسعى سنغافورة إلى تسخير التكنولوجيا لتعويض النقص المتوقع في القوى العاملة في قطاع الرعاية الصحية، وضمان تقديم رعاية عالية الجودة للمسنين.
لكن هل ينجح الرهان السنغافوري على الذكاء الاصطناعي في مواجهة تحدي الشيخوخة؟ وهل يهدد ربع السكان المسنين معجزة سنغافورة الاقتصادية؟ وهل سيطيح "الجيل الفضي" بالنموذج الاقتصادي الذي جعل من سنغافورة مثالاً يحتذى به؟
بحلول عام 2030، سيكون ربع سكان سنغافورة بعمر 65 عاماً أو أكثر - في عام 2010، كان الرقم واحداً من كل 10 - ويُقدر أنه سيتعين توظيف حوالي 6000 ممرض وموظف رعاية سنوياً لتلبية أهداف القوى العاملة الصحية في سنغافورة، بحسب تقرير نشرته شبكة (سي إن بي سي) واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
وأوضح أن سنغافورة تتطلع إلى الذكاء الاصطناعي للمساعدة في إدارة صحة سكانها المسنين، بدءاً من أجهزة الاستماع التي تكشف السقوط إلى أنظمة مراقبة المرضى في المستشفيات والروبوتات التي تساعد في التمارين الرياضية في دور الرعاية.
ويعد استخدام التكنولوجيا ضرورياً لسد فجوة الرعاية في سنغافورة وغيرها، وفقاً لتشوان دي فو، زميل باحث في كلية سو سوي هوك للصحة العامة في سنغافورة. والذي أشار في بحث بمجلة العلوم "فرونتيرز" مع مؤلفيه المشاركين، أن المجتمعات في جميع أنحاء العالم "غير مستعدة بشكل بائس" لشيخوخة السكان، ووصفوا الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى بأنها "قوى محورية لديها القدرة على إحداث تحول نموذجي في الرعاية الصحية".
ويرى فو أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي دوراً ضخماً في رعاية المسنين في سنغافورة، سواء من حيث مساعدة الأطباء في إدارة الحالات غير الحادة أو في الإشراف على المهام الإدارية مثل مراقبة توافر أسرّة المستشفيات،
وذكر التقرير أنه ليست سنغافورة وحدها التي تتطلع إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لرعاية المسنين. في الولايات المتحدة، تعد Sensi.AI "مساعد طيار للرعاية" سريع النمو يراقب كبار السن باستخدام أجهزة صوتية يتم توصيلها عادةً بثلاث مناطق في منازلهم.
وفي سنغافورة، تحدد "خطة العمل للشيخوخة الناجحة" للحكومة أهدافها، مثل الوصول إلى 550,000 من كبار السن ببرنامج صحي وعافية وتقليل الوفيات في المستشفيات من 61 بالمئة إلى 51 بالمئة بين عامي 2023 و2028.
ويرى تشيو أن النهج المتبع في رعاية المسنين سيحتاج إلى مزج الإنسان والآلة، واصفاً إياه بأنه "تقنية عالية، ولكن لمسة عالية". وأضاف: "من المحتمل أن يكون الذكاء الاصطناعي أفضل استخدام كمجموعة إضافية من العيون والآذان والروبوتات [مجموعة إضافية من الأيدي، ولكن ليس كبديل للرعاية البشرية ذات اللمسة العالية.
معجزة في قلب آسيا
لطالما كانت سنغافورة نموذجاً يحتذى به في التنمية الاقتصادية، حيث تحولت من دولة فقيرة تفتقر إلى الموارد الطبيعية إلى واحدة من أغنى دول العالم في غضون عقود قليلة. يعود الفضل في هذه المعجزة الاقتصادية إلى مجموعة من العوامل، بما في ذلك السياسات الحكومية الرشيدة، والاستثمار في التعليم والبنية التحتية، والتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية.
ويتميز اقتصاد سنغافورة بالتنوع والقوة، حيث تلعب قطاعات مثل الخدمات المالية، والإلكترونيات، والبتروكيماويات، والسياحة، دوراً رئيسيًا في النمو الاقتصادي. وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة في عام 2023 حوالي 501.43 مليار دولار أمريكي، بحسب بيانات البنك الدولي، بينما أظهرت بيانات وزارة التجارة والصناعة في سنغافورة نمو الاقتصاد خلال الربع الأخير من 2024 بمعدل 4.3 بالمئة. ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 65,422 دولار أميركي، مما يعكس مستوى المعيشة المرتفع في البلاد. ومع ذلك، يواجه اقتصاد سنغافورة تحديات كبيرة في السنوات القادمة، بما في ذلك شيخوخة السكان، والمنافسة المتزايدة من الاقتصادات الناشئة، والحاجة إلى التكيف مع التغيرات التكنولوجية المتسارعة.
تأثير محدود بفضل التقدم التكنولوجي
يرى الخبير الاقتصادي، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية هاشم عقل، أن تأثير شيخوخة السكان على الاقتصاد السنغافوري قد يكون محدوداً، بفضل التقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، وهو ما يظهر جلياً في تجارب دول مثل اليابان والصين.
ومع ذلك أضاف عقل: "إن تقلص أعداد القوى العاملة بدأ بالفعل يترك أثره على سوق العمل، حيث شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً طفيفاً في نسبة المشاركة في القوى العاملة، فيما أفاد 79بلمئة بالمئة من أصحاب العمل في عام 2024 بصعوبة ملء الوظائف الشاغرة، لا سيما في الشركات الكبرى التي تضم أكثر من 5000 موظف. ويرى أن هذا التراجع قد يؤثر على النمو الاقتصادي وزيادة الأعباء المالية على الدولة، فضلًا عن الضغط على النظام الصحي وتغير أنماط الاستهلاك.
وأوضح أن الحكومة اتخذت عدة إجراءات لمواجهة تداعيات الشيخوخة، مثل تمديد سن إعادة التوظيف من 65 إلى 67 عاماً، ومنح إجازات ولادة طويلة مدفوعة الأجر، بالإضافة إلى تقديم دعم مالي شهري لكل مولود جديد. كما أطلقت فئة جديدة من التأشيرات لاستقطاب العمالة الماهرة، في محاولة لتعويض النقص في سوق العمل.
لكن عقل يرى أن الحل الأمثل لمشكلة الشيخوخة يكمن في الاستثمار في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لتعويض نقص العمالة، إلى جانب تشجيع الهجرة المدروسة للعمال المهرة. ويشير إلى أن الروبوتات أصبحت أكثر انتشاراً في سنغافورة خلال العام الماضي، حيث تم استخدامها في مجالات مختلفة، من الحراسة في الحدائق إلى إعداد القهوة وتنظيف المرافق العامة. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الدولة ستتوسع في الاعتماد على الأتمتة بشكل كبير، نظراً للأهمية التي توليها للتناغم الاجتماعي وحماية الوظائف.
ويخلص عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية عقل إلى أن الحفاظ على استدامة الاقتصاد السنغافوري في ظل التحديات الديموغرافية يتطلب استراتيجية متكاملة، تجمع بين الاستثمار في التكنولوجيا، وإعادة دمج المتقاعدين في سوق العمل، وتعزيز استقطاب المواهب العالمية، وهو ما سيحدد ما إذا كانت سنغافورة قادرة على حماية معجزتها الاقتصادية من تداعيات الشيخوخة.
تحديات الشيخوخة على الاقتصاد
من جهته، أوضح الخبير الاقتصادي علي حمودي في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن شيخوخة السكان تشكل تحدياً متزايداً لسنغافورة، معتبراً أن هذه الظاهرة قد تهدد معجزة سنغافورة الاقتصادية بعدة طرق هي،
- زيادة العبء على نظام الرعاية الاجتماعية، فمع ارتفاع نسبة المسنين، يحتاج هذا النظام إلى توفير خدمات صحية ورعاية اجتماعية أكبر، مما قد يتطلب إعادة توزيع الموارد المالية.
- تراجع اليد العاملة، إذ أن تراجع عدد السكان في سن العمل يمكن أن يؤدي إلى نقص في القوة العاملة، مما يؤثر سلباً على الإنتاجية والنمو الاقتصادي.
- تغير في أنماط الاستهلاك، حيث أن المسنين لديهم أنماط استهلاك تختلف عن الأجيال الشابة، مما قد يؤثر على قطاعات معينة من الاقتصاد مثل الإسكان والتكنولوجيا.
إعادة النظر في النموذج الاقتصادي
وفيما إذا كان "الجيل الفضي" سيطيح بالنموذج الاقتصادي لسنغافورة قال حمودي: "الجيل الفضي في سنغافورة، وفي حالة عدم الاستجابة المناسبة للتحديات والتغييرات الناتجة عن شيخوخة السكان، قد يطيح بالنموذج الاقتصادي القائم على النمو المستدام، وتحتاج الحكومة على إعادة النظر في النموذج الاقتصادي: عبر تعديل سياساتها الاقتصادية لتلبية احتياجات الفئات السكانية المسنّة، والتركيز على القطاعات التي تدعمهم".
كما تحتاج سنغافورة إلى الابتكار والمهن الموجهة نحو المسنين ذلك أن تطوير فرص العمل في المجالات التي تخدم احتياجات المسنين يمكن أن يساعد في الحفاظ على النمو.، إلى جانب ضرورة وجود سياسة توازن بين توفير الدعم للمسنين وتحفيز الشباب على المشاركة في الاقتصاد، بحسب تعبيره.
ورداً على سؤال حول قدرة سنغافورة على نجاح مراهنتها على الذكاء الاصطناعي في مواجهة تحدي الشيخوخة أشار الخبير الاقتصادي حمودي إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي (AI) في سنغافورة يمكن أن يكون أداة فعّالة لمواجهة تحديات الشيخوخة، ولكنه يعتمد على كيفية تطبيقها، وذكر في هذا السياق عدة نقاط أهمها:
- تحسين الرعاية الصحية: من خلال تكنولوجيا التحليل والتنبؤ، يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين رعاية المرضى وتحليل البيانات الكبيرة لتقديم خدمات صحية أفضل.
- تسهيل الحياة اليومية: عبر تطوير حلول ذكية، مثل الروبوتات المساعدة التقنية، ويمكن تحسين نوعية حياة المسنين من خلال تسهيل الأنشطة اليومية.
- تحقيق الكفاءة الاقتصادية: إذا تم تبني الذكاء الاصطناعي بشكل فعّال، قد تساعد هذه التكنولوجيا في تعويض الفجوات الناتجة عن نقص اليد العاملة، مما يساهم في استدامة النمو الاقتصادي.
وختم حمودي بأن "النجاح في مواجهة تحدي الشيخوخة يتطلب استجابة شاملة من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع. من الضروري أن تكون الاستراتيجيات مرنة وقابلة للتكيف، مع التركيز على الدعم التكنولوجي والابتكارات التي تعزز الجودة العالية للحياة لكافة الأعمار".