بعد انسحاب أميركا.. من سيتحمل مسؤولية الاقتصاد العالمي؟
11:30 - 28 فبراير 2025
لطالما كان الاقتصاد العالمي بحاجة إلى قوة مهيمنة أو قائد قوي مستعد لدفع الثمن من أجل استقرار الجميع.
ولعقود من الزمن، لعبت الولايات المتحدة ودون منازع هذا الدور، حيث تدخلت عند الأزمات، وأنقذت الأسواق، وحمت النظام المالي العالمي من الانهيار، فمن أزمة الديون في أميركا اللاتينية في الثمانينيات إلى الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 والأزمة المالية العالمية في 2008-2009، كانت واشنطن تتدخل بحزم للمساهمة في استقرار الاقتصاد العالمي.
ولكن اليوم، ولأسباب لا تتعلق بالعجز، يبدو أن أميركا وفي ظل الإدارة الجديدة قررت التخلي عن تحمّل مسؤولية الاقتصاد العالمي، فبعد إعلانها منذ أيام من ميونيخ، أنها لم تعد تضمن أمن أوروبا، لم يعد أحد يثق بأن واشنطن ستتحرك لإنقاذ الاقتصاد العالمي إذا واجه أزمة كبرى، في حين لا تبدو الصين مهتمة بتولي هذه المسؤولية.
وبحسب تقرير أعدته "فاينانشال تايمز" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإنه في ظل هذا الفراغ القيادي، يتجه العالم نحو مرحلة غير مسبوقة من عدم الاستقرار، حيث إن غياب القيادة الاقتصادية قد يعيد العالم إلى حالة عدم الاستقرار، التي شهدها في ثلاثينيات القرن الماضي، مما يثير مخاوف من أزمات مالية جديدة.
نهج جديد وتمسّك بالدولار
وباتت أميركا تنظر إلى دورها التقليدي في تحمّل مسؤولية الاقتصاد العالمي من منظور الربح والخسارة، فهي تريد تقديم الخدمات فقط مقابل ثمن، وهذا التحول لم يكن مفاجئاً، خاصة مع ترسّخ نهج الرئيس دونالد ترامب في فرض الرسوم الجمركية كسياسة دائمة، وتعامله مع الدعم المالي للدول، كصفقات تجارية يجب أن تدر عائداً على واشنطن، فالمساعدات أصبحت استثمارات، والخدمات التي كانت تقدمها واشنطن دون مقابل، باتت اليوم مشروطة بثمن، وما يحصل مع أوكرانيا حالياً خير دليل على هذا التحوّل.
ورغم تراجعها عن قيادة الاقتصاد العالمي، لا تزال أميركا تتمسك بسيادة الدولار بكل قوة، متعهدة بالتصدي لأي محاولة تهدد مركزه، فبينما تنسحب من دور الضامن للاستقرار، تبقى مستعدة للانتقام ممن يجرؤ على كسر قواعد اللعبة التي وضعتها بنفسها.
هل تملك المؤسسات المالية الحل؟
وبينما تواصل مؤسسات كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي عملها في توفير الائتمان الطويل الأجل للدول المتعثرة، إلا أن وجود هذه المؤسسات لا يقلل الكثير من المخاوف، إذ واجه صندوق النقد صعوبات كبيرة في استيعاب تحديات دول مثل اليونان، وأيرلندا، والأرجنتين، ما يعني أن تدخله لمعالجة أزمة اقتصادية ضخمة، قد لا يكون أمراً سهلاً، وسيعرّض موارده لاستنزاف شديد.
وما يجب إدراكه أيضاً هو أن المؤسسات التي تبدو دولية في هيكليتها، غالباً ما تبقى قراراتها الحاسمة رهينة الإرادة الأميركية. ففي كثير من الأوقات، لا يتحرك صندوق النقد الدولي بفعالية إلا بعد الحصول على ضوء أخضر من واشنطن، حيث تمتلك أميركا النفوذ الأكبر داخله، ما يجعل تدخل الصندوق في الأزمات مرهوناً بالمصالح الأميركية، وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على البنك الدولي، ولو بنسبة أقل.
الرهان على الحظ
وفي الوقت الحالي، تبقى الآمال معقودة على "الحظ" في أن يتجنب الاقتصاد العالمي أزمة كبرى تستدعي قيادة وتنسيقاً دولياً لحلها، لكن الرهان على "الحظ" وحده ليس استراتيجية مضمونة، فالتاريخ يثبت أن الأزمات الاقتصادية قد تأتي حين لا يكون العالم مستعداً لها، ومع غياب قيادة واضحة، قد يكون التعامل معها أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
من سيملأ فراغ القيادة الاقتصادية؟
وتقول المحللة الاقتصادية محاسن مرسل، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن أميركا تنسحب تدريجياً من مسؤولية المحافظة على استقرار الاقتصاد العالمي، واضعة مصالحها الخاصة فوق كل الاعتبارات، ومع عدم رغبة الصين في تحمّل هذه المسؤولية، يبرز سؤال ملح حول هوية الجهة التي تمتلك القدرات الكاملة لتولي زمام القيادة الاقتصادية العالمية وتحمل مسؤولية استقرارها، مشيرة إلى أن الحلّ الأمثل لهذه "المعضلة" لا يكمن في تحمّل جهة واحدة المسؤولية، بل في بناء ائتلاف متعدد الأطراف يجمع بين مختلف الكتل الاقتصادية الرئيسية.
وبحسب مرسل فإن الاتحاد الأوروبي يبرز كأحد أهم المرشحين لهذه المهمة، نظراً لما يتمتع به من مؤسسات متطورة، وسوق موحدة، وعملة مشتركة تعزز من قدرته على التنسيق الاقتصادي عبر حدوده، فيمكن للمؤسسات الأوروبية مثل البنك المركزي الأوروبي واللجنة الأوروبية أن توفر استجابة متكاملة للأزمات المالية إذا ما تم تذليل الانقسامات الداخلية وتعزيز الوحدة السياسية والاقتصادية، لافتةً أيضاً إلى وجود بعض الاقتصادات الناشئة مثل الهند، التي من المحتمل أن يكون لها دور مستقبلي في مهمة "مساندة" الاقتصاد العالمي، وذلك نظراً لنموها الاقتصادي السريع ومكانتها الاستراتيجية في النظام العالمي، رغم أنها لا تزال تواجه تحدياتها الخاصة على صعيد الإصلاحات الهيكلية والاندماج في الأسواق العالمية.
واعتبرت مرسل أن المنصات الدولية مثل مجموعة العشرين، من المرشحين البارزين أيضاً لتحمّل مسؤولية الاقتصاد العالمي، فهذه المجموعة تمثل حلاً جماعياً يضم القوى الاقتصادية المتقدمة والناشئة معاً، وإذا تم تعزيز قدرتها على اتخاذ قرارات فاعلة وتنفيذ سياسات منسقة، فإنها يمكن أن تسهم بشكل كبير في توجيه الاقتصاد العالمي في أوقات الأزمات.
وتؤكد مرسل أن الحل الأمثل لتعبئة الفراغ الذي سينتج عن عدم تدخل الولايات المتحدة، يكون في إنشاء شبكة من التعاون بين الكتل الاقتصادية الرئيسية، مما يتيح تنسيق السياسات المالية والنقدية على مستوى عالمي، وهذه الشبكة، قد توفر الاستقرار اللازم في مواجهة الأزمات المستقبلية، مشددةً على أن تحقيق هذا الأمر يتطلب إرادة سياسية وإصلاحات مؤسسية عميقة، تساهم في إبعاد الاقتصاد العالمي عن حالة عدم اليقين.
تغيير قواعد اللعبة
من جهته يقول المحلل المالي جوزف زغبي، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن أميركا ورغم التخلي الظاهر عن بعض أدوارها كحامي الاقتصاد العالمي، لا تزال تتمتع بقدرة هائلة على التأثير، فالسياسة الاقتصادية التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب، بالاتجاه نحو تقليص الالتزامات الاقتصادية العالمية، هي في الواقع محاولة لإعادة تغيير قواعد اللعبة، حيث تسعى الولايات المتحدة للحصول على مقابل مباشر لخدماتها، معتبراً أن الخدمات التي كانت تقدمها واشنطن سابقاً دون مقابل، مثل توفير السيولة، باتت اليوم مقترنة بشروط تجارية تضمن المصلحة الأميركية.
لا بديل عن أميركا
ويؤكد زغبي أنه رغم أن الولايات المتحدة قد تبدو أقل رغبة في التفاعل كقوة مهيمنة، إلا أن واقع الأمر يكشف أن نفوذها الاقتصادي يظل غير قابل للمنافسة بسهولة، حيث إن القوة الاقتصادية الأميركية مستمرة في التحكم بمنظومة التمويل الدولية، فهي تملك الدولار كعملة احتياطية عالمية، وتقود المؤسسات المالية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ما يمنحها نفوذاً مباشراً في تحديد السياسات الاقتصادية العالمية، وبالتالي تبقى أميركا، رغم سياستها المتغيرة، اللاعب الأهم الذي قد لا يترك الاقتصاد العالمي ولكنه يفضّل فرض شروط واضحة مقابل دوره، مما سيضع العالم أمام مشهد اقتصادي مليء بالتحديات والشكوك.