"أزمة الميزانية" تضع فرنسا أمام "سيناريوهات معقدة"
12:26 - 28 نوفمبر 2024تعيش الساحة السياسية والاقتصادية الفرنسية حالة من الفوضى منذ الانتخابات البرلمانية غير الحاسمة في الصيف، وتعد الخلافات بشأن "الميزانية" تجسيداً واضحاً لجوانب تلك الأزمة.. فما القصة؟
مشروع قانون ميزانية 2025 الذي قدم في العاشر من أكتوبر جلب الانقسامات إلى الواجهة، مع معارضة اليمين المتطرف لمقترحات الحكومة بتوفير 60 مليار يورو (62.85 مليار دولار) في صورة وفورات، مع حصول 40 مليار يورو من تخفيضات الإنفاق والـ20 مليار يورو المتبقية من خلال زيادات الضرائب.
تهدف الخطة إلى خفض العجز الهائل في البلاد إلى نحو 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2025، انخفاضا من 6.1 بالمئة المتوقعة في عام 2024 ــ وهو أكثر من ضعف المستوى المسموح به من قبل المفوضية الأوروبية.
- تلتزم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالحفاظ على عجز موازناتها في حدود 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ودينها العام في حدود 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
- بلغ عجز الموازنة في فرنسا 5.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، وتجاوز الدين العام 110بالمئة.
- حذر وزير الميزانية لوران سان مارتن الشهر الماضي من أن العجز قد يتسع إلى 7 بالمئة في عام 2025 إذا لم يتم اتخاذ تدابير جذرية.
في هذا السياق، نقل تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية، عن ديفيد روش من شركة كوانتوم ستراتيجي، قوله إنه يعتقد بأن الحكومة الفرنسية "ستسقط على الأرجح" في ديسمبر. لكنه أشار إلى أنه لا يمكن إجراء انتخابات تشريعية قبل يونيو 2025، بموجب القانون (أي بعد 12 شهراً من آخر تصويت دعا إليه ماكرون).
وأضاف: "لذلك يمكن لماكرون أن يترك رئيس الوزراء ميشيل بارنييه في مكانه على رأس حكومة انتقالية مشلولة (بدون ميزانية) أو تعيين شخص مثل محافظ بنك فرنسا لرئاسة حكومة سلبية تمامًا تؤدي مهام بسيطة حتى يونيو".
وفي حالة سقوط الحكومة، حذر روش من أن "أي فكرة مفادها أن فرنسا سوف تخفض عجزها وديونها لن تكون مقبولة".
وكانت حكومة بارنييه قد نجحت في النجاة من تصويت بحجب الثقة في أكتوبر، والذي قدمه نواب حزب التجمع الوطني، الذين يشعرون بأنهم سُلبوا فوزهم في الانتخابات. وقد امتنع التجمع الوطني عن التصويت، الأمر الذي أنقذ الحكومة الناشئة فعلياً آنذاك.
تحديات متعددة
من باريس، يقول الكاتب والمحلل عبد الغني العيادي في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- أزمة الميزانية في فرنسا تمثل تحدياً سياسياً واقتصادياً قد يكون له تداعيات واسعة على المشهد العام.
- الاحتمالات المستقبلية تتراوح بين التوافق والتصعيد، أو حتى الأزمات السياسية.
- في حال سعت الحكومة إلى إقرار الميزانية بتعديلات توافقية، يمكن أن تقلل التوترات مع المعارضة والنقابات، مما يتيح استمرار برامج الإصلاح.
- ومع ذلك، فإن هذه التعديلات قد تأتي على حساب أهداف الحكومة المالية، مثل خفض العجز أو تقليل الإنفاق العام.
- من جهة أخرى، قد تضطر الحكومة إلى استخدام المادة 49-3 من الدستور لتمرير الميزانية دون تصويت برلماني، وهو خيار يثير توتراً سياسياً واجتماعياً كبيراً؛ حيث يمكن أن يؤدي إلى احتجاجات واسعة وتصويت بحجب الثقة، ما يهدد استقرار الحكومة نفسها.
ويضيف: إذا لم يتم التوصل إلى توافق أو استخدام المادة الدستورية، فإن البلاد قد تواجه حالة من الشلل المالي.. هذا السيناريو يؤدي إلى تأخير في تنفيذ البرامج الحكومية وتعطل الاستثمارات العامة والخاصة، مع تصاعد الضغوط على الأسواق المالية، بما في ذلك ارتفاع تكلفة الاقتراض. كما قد يترافق ذلك مع تدهور التصنيف الائتماني للبلاد، ما يزيد من الأعباء المالية على الحكومة ويعيق قدرتها على تمويل مشاريع حيوية.
يشار إلى أن الأسهم الفرنسية، تراجعت الأربعاء، إلى أدنى مستوياتها في أكثر من ثلاثة أشهر مع شعور المستثمرين بالقلق حيال قدرة الحكومة على المضي قدما في إقرار ميزانيتها واستمرار المخاوف من الرسوم الجمركية الأميركية المحتملة.
ويشدد على أن التداعيات الاجتماعية لهذه الأزمة واضحة، حيث يُحتمل أن تزداد الاحتجاجات والإضرابات، خصوصاً من قبل النقابات العمالية والطبقات المتضررة من أي تدابير تقشفية محتملة، موضحاً أن الشارع الفرنسي، المعروف بتقاليده الاحتجاجية، قد يشهد تعبئة واسعة، وهو ما قد يعيد للأذهان موجات الغضب السابقة مثل احتجاجات "السترات الصفراء". في هذا السياق، ستجد الحكومة نفسها مضطرة إما لتقديم تنازلات إضافية أو المخاطرة بتصعيد الاحتجاجات، مما قد يؤدي إلى اضطراب طويل الأمد.
- سياسياً، قد تستغل المعارضة الأزمة لتعزيز حضورها داخل البرلمان وخارجه، مما يضعف موقف الحكومة. إذا لجأت الأخيرة للمادة 49-3 وتم تقديم اقتراح لحجب الثقة، فقد يؤدي ذلك إلى تعديل وزاري أو حتى انتخابات مبكرة، ما يزيد من حالة عدم اليقين السياسي. مثل هذه التطورات قد تضعف التحالفات الحالية داخل الحكومة، وتفتح المجال لصعود قوى سياسية جديدة، سواء من اليمين أو اليسار، وفق العيادي.
- اقتصادياً، إن تعطيل الميزانية أو تباطؤ الإصلاحات قد يؤثر بشكل سلبي على الاستثمار والنمو الاقتصادي.. ستواجه فرنسا تحديًا مزدوجًا يتمثل في تهدئة التوترات الاجتماعية والسياسية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التزاماتها المالية داخل الاتحاد الأوروبي. بينما على المدى الطويل، قد تتأثر مكانة فرنسا كقوة اقتصادية وسياسية محورية داخل القارة الأوروبية، ما يضعف نفوذها في اتخاذ القرارات الأوروبية الهامة.
ويختتم حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، قائلاً: الأزمة، بمختلف مساراتها، تُبرز التحديات العميقة التي تواجهها فرنسا اليوم، بين مطالب الإصلاح الاقتصادي والضغوط الشعبية المتزايدة. كيفية إدارتها ستحدد ليس فقط مستقبل الحكومة الحالية، ولكن أيضًا استقرار البلاد خلال السنوات المقبلة.
وضع محفوف بالمخاطر
وبشكل عام، تواجه الحكومة الفرنسية وضعاً محفوفاً بالمخاطر؛ مع تهديد حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بإسقاط إدارة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه بحلول نهاية العام.
وكانت زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان، قد أشارت يوم الاثنين الماضي إلى أن المحادثات مع بارنييه، التي تهدف إلى انتزاع تنازلات بشأن مشروع قانون ميزانية فرنسا لعام 2025 الذي يتضمن زيادة الضرائب، فشلت في إنتاج التغييرات التي تسمح لحزبها بالموافقة على خطط الحكومة. وقالت في تصريحات نقلتها وكالة أسوشيتد برس: "سنرى ما إذا كانت مقترحات اليوم سيتم أخذها في الاعتبار، لكن لا شيء مؤكد".
ومن المتوقع أن يتم تداول مشروع قانون الميزانية بين مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية خلال الأسابيع القليلة المقبلة، حيث رفض أغلب المشرعين بالفعل مشروع القانون في صيغته الأصلية، ثم المعدلة لاحقاً. وقد ذهبت الميزانية الأصلية الآن إلى مجلس الشيوخ للمراجعة والمناقشة قبل أن تواجه التصويت النهائي في 12 ديسمبر. ويجب إقرارها بحلول 21 ديسمبر .
وأشار بارنييه إلى أنه قد يستخدم سلطات دستورية خاصة للالتفاف على التصويت البرلماني وإقرار الميزانية بموجب مرسوم رئاسي (بموجب المادة 49).
ولكن نفس القاعدة ــ المادة 49.3 من الدستور الفرنسي ــ تسمح للمعارضين بتقديم اقتراح بحجب الثقة، مما يعطي أحزاب المعارضة على اليسار واليمين الفرصة لإسقاط الحكومة إذا تضافرت جهودها، وفق تقرير شبكة "سي إن بي سي" الأميركية، الذي نقل عن نائب مدير الأبحاث في شركة تينيو للاستشارات في مجال المخاطر، كارستن نيكل، قوله إن الكثير يعتمد الآن على الخطوات التالية التي ستتخذها لوبان، مضيفاً: حتى الآن، كان من المتوقع أن يمتنع حزبها التجمع الوطني عن التصويت.
وشدد على أن السماح للحكومة بالبقاء وإقرار الميزانية من شأنه أن يسمح للوبان بتقديم نفسها على أنها أكثر مسؤولية من التجمع الوطني. ومع ذلك، فإن محاكمة لوبان الجارية بتهمة اختلاس الأموال تهدد بزعزعة هذه الحسابات.
أزمة سياسية
من باريس، يقول الكاتب والمحلل توفيق قويدر، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن فرنسا تعيش أزمة سياسية حادة نتيجة عدم قدرة الحكومة على تمرير القوانين بسهولة ؛ مع غياب الأغلبية المطلقة التي كان يتمتع بها الرئيس إيمانويل ماكرون سابقاً، موضحاً أن ثمة سيناريوهات رئيسية تخيم على المشهد فيما يخص الميزانية، وهي كالتالي:
السيناريو الأول:
بشأن أزمة الميزانية هو احتمال تمريرها استناداً إلى المادة 49 الفقرة الثالثة من الدستور الفرنسي، التي تتيح للرئيس تجاوز تصويت الجمعية الوطنية. وقد لجأ ماكرون لهذه الآلية سابقاً لتمرير قانون التقاعد وبعض القوانين الأخرى.
إذا تم تمرير الميزانية بهذه الطريقة، فمن المتوقع أن تثير هذه الخطوة غضب المعارضة، وخصوصاً حزب "التجمع الوطني" وحزب "فرنسا الأبية"، بالإضافة إلى النقابات. وهذه الأطراف قد تدعو إلى احتجاجات واسعة في الشوارع.
السيناريو الثاني:
يتمثل هذا السيناريو في سحب الثقة من الحكومة. إذا تمكنت المعارضة من جمع النصاب اللازم بتحالف بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.. سيتم إسقاط الحكومة. في هذه الحالة، سيُطلب من ماكرون تعيين رئيس حكومة جديد.
السيناريو الثالث:
يتعلق هذا السيناريو بعقد صفقة سياسية لتمرير الميزانية.. التقارير الإعلامية تحدثت عن احتمال تفاهم بين الحكومة وزعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبان. الصفقة قد تتضمن تمرير الميزانية مقابل تخفيف أو غلق ملفاتها القضائية أمام القضاء الفرنسي.
- تخضع لوبان وشخصيات رئيسية أخرى في الحزب للمحاكمة حاليا بتهمة اختلاس أموال من البرلمان الأوروبي من خلال وظائف وهمية.
- تنفي لوبان ارتكاب أي مخالفات، ولكن إذا ثبتت إدانتها، فقد يتم سجنها ومنعها من ممارسة السياسة الفرنسية لمدة خمس سنوات، مما يوقف طموحاتها الرئاسية في انتخابات عام 2027.
- تضيف المحاكمة عنصراً آخر من عدم اليقين بشأن ما إذا كان التجمع الوطني سينفذ تهديده بإسقاط حكومة بارنييه، بحسب تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية.
ويوضح أن التداعيات في جميع السيناريوهات لا تقتصر على المشهد السياسي فقط، بل تمتد إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، لافتاً إلى أن الاحتجاجات التي تشهدها باريس، خاصة تلك التي يقودها المزارعون، قد تتصاعد. كما أن الأسواق المالية قد تتعرض لاضطرابات. كما نوّه بأن وزير المالية الفرنسي حذر من أن عدم تمرير الميزانية سيؤدي إلى تعطل الخدمات الحيوية، مثل صرف المعاشات والعلاج الطبي، مما يزيد من الضغط على المواطنين ويعكس صورة قاتمة للوضع الاقتصادي والسياسي في فرنسا.
يعكس هذا هذا المشهد هشاشة النظام الديمقراطي الفرنسي في ظل التحديات السياسية الراهنة، ويفتح الباب أمام أسئلة حول قدرة الحكومة على المضي قدمًا وسط تصاعد الضغوط من المعارضة والشارع.
سقوط الحكومة
وإلى ذلك، يشير من باريس الكاتب الصحافي نزار الجليدي لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي في فرنسا، حيث يتوقع سقوط الحكومة الحالية قبل نهاية العام، موضحاً أن السبب الرئيسي لهذا التوقع يعود إلى الخلافات الحادة حول الميزانية وعدم قدرة الأحزاب على التوصل إلى اتفاق. ومن ثم فإن هذا الوضع يهدد بدخول فرنسا في أزمة سياسية جديدة قد تستدعي إجراء انتخابات مبكرة.
ويضيف الجليدي:
- تعد الخلافات حول الميزانية الشرارة التي أشعلت الأزمة الحالية.. عدم التوافق حول توزيع الموارد المالية بين القطاعات المختلفة يضع الحكومة في موقف صعب.
- تسعى الأحزاب السياسية إلى تعزيز وجودها وتأثيرها في ظل هذه الأزمة، مما يعقد عملية إيجاد حلول توافقية.
- يرجح الخبراء سقوط الحكومة الحالية قبل نهاية العام، مما قد يؤدي إلى فراغ سياسي.
- قد تدخل فرنسا في أزمة سياسية جديدة، تتطلب إجراء انتخابات مبكرة لتشكيل حكومة جديدة قادرة على إدارة شؤون البلاد.
أما عن التأثيرات المحتملة فيلخصها الجليدي، على النحو التالي:
- قد يؤثر عدم الاستقرار السياسي في فرنسا سلبًا على الاقتصاد والاستثمار، مما يقلل من الثقة في المستقبل.
- قد تتأثر السياسات العامة في مختلف المجالات، مثل الاقتصاد والصحة والتعليم، بسبب عدم وجود حكومة مستقرة.
- قد يؤثر الوضع الداخلي في فرنسا على علاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى.
- سيعاني المواطن الفرنسي من تداعيات الأزمة السياسية، مثل ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات العامة.