فرنسا.. "الاقتصاد" رهينة سياسات متباينة بين اليمين واليسار
16:10 - 27 يونيو 2024لطالما قدمت أحزاب اليمين المتطرف واليسار المتشدد في فرنسا وعوداً بإنفاق سخي؛ استجابةً لتظلمات الشعب ضد الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته الوسطية خلال الفترات الماضية.
والآن قد يأتيان في المركزين الأول والثاني في الانتخابات المبكرة للجمعية الوطنية في 30 يونيو والسابع من يوليو ، بينما يأتي تحالف ماكرون في المركز الثالث بفارق كبير، وفقا لاستطلاعات الرأي.
ويشير تقرير لصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية إلى أن احتمال فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في الحكومة، أو فوز تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري، أو السيناريو الأكثر ترجيحًا لبرلمان معلق مليء بالشعبويين الماليين، أثار قلق المستثمرين وقادة الأعمال وشركاء فرنسا في الاتحاد الأوروبي.
ما وعود اليمين المتطرف؟
خاضت مارين لوبان الانتخابات الرئاسية للعام 2022 بوعود إنفاق كانت ستتكلف أكثر من 100 مليار يورو سنوياً، معظمها لتخفيف أزمة تكاليف المعيشة. ولم يصدر حزبها "التجمع الوطني" بعد برنامجاً رسمياً، على الرغم من أنه يقول إنه سيؤكد أولوياته مع اقتراب يوم الاقتراع.
وقد استخدم غوردان بارديلا، رئيس الحزب والمرشح لمنصب رئيس الوزراء، هذا الغموض لتخفيف بعض تعهدات حزب الجبهة الوطنية في الأيام الأخيرة، ومحاربة حجة ماكرون بأنه سيغرق فرنسا في أزمة ديون. لكن حتى التدابير التي يعتزم الاحتفاظ بها ستترك فجوة مالية كبيرة، وفق الصحيفة.
خفض الضرائب
يقول بارديلا إن إحدى الأولويات هي خفض ضريبة القيمة المضافة على الطاقة والوقود، والتي تقدر تكلفتها بما يتراوح بين 10 و17 مليار يورو - وهو إجراء يحتاج إلى موافقة بروكسل. لكنه أرجأ تعهداً سابقاً بإسقاط ضريبة القيمة المضافة على الضروريات المنزلية.
وبحسب بارديلا أيضاً فإنه سيلغي إصلاحات ماكرون الخاصة بمعاشات التقاعد والتي تم تحقيقها بشق الأنفس، ويعكس سن التقاعد من 64 عاماً إلى 62 عاماً في وقت غير محدد بدءاً من "الخريف".
ونقلت الصحيفة عن مدير الهيئة الاقتصادية المستقلة OFCE، إيريك هاير، قوله إنه كان من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى فجوة تتراوح بين 12 مليار يورو و13 مليار يورو.
يريد الحزب الجمهوري خفض سن التقاعد إلى 60 عاماً لأولئك الذين عملوا لمدة 40 عاماً على الأقل - وهو إجراء يقول بارديلا إنه سيكلف 1.6 مليار يورو.
وتعهد زعيم حزب التجمع الوطني بإجراء تدقيق مستقل أولاً عند توليه السلطة قبل اتخاذ تدابير أخرى مكلفة.
كيف يمكن للحزب أن يمول خططه؟
يقول الاقتصاديون إن أفكار حزب الجبهة الوطنية إما غير قابلة للتصديق أو أنها محدودة النطاق. ويزعم الحزب أنه سيخفض مساهمات فرنسا في ميزانية الاتحاد الأوروبي بمقدار ملياري يورو - ولكن إذا حاول ذلك، فيمكن لبروكسل أن تحد من أموال الاتحاد الأوروبي التي تتلقاها باريس، طبقاً لتقرير الصحيفة البريطانية المشار إليه.
وكان الحزب الجمهوري قد قال في وقت سابق إنه سيوفر 9 مليارات يورو عن طريق الحد من الهجرة وخفض مدفوعات الرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية للمواطنين الأجانب.
أحد الإجراءات المالية التي حددتها هو إنهاء الإعفاءات الضريبية لشركات الشحن البحري، بما في ذلك العملاق الفرنسي CMA CGM.
واعترف بارديلا بأن أمام الجبهة الوطنية المزيد من العمل للقيام به، قائلاً: "نحن بصدد تحديد الوفورات المحتملة في الإنفاق الحكومي الخاطئ".
ما خطط الكتلة اليسارية؟
على الجانب الآخر، يتبنى الحزب الوطني أجندة متطرفة تتعلق بالضرائب والإنفاق مستوحاة بشكل كبير من حزب فرنسا الأبية الشعبوي اليساري المتطرف (المعروف أيضاً باسم فرنسا التي لا تنحني أو LFI).
وقالت المرشحة الاشتراكية التي تنتمي إلى الحزب الوطني الجديد والمقررة السابقة لشؤون الميزانية الفرنسية، فاليري رابولت، لصحيفة الأعمال اليومية Les Echos إن البرنامج سيكلف ما مجموعه 106 مليارات يورو. وقال بعض أعضاء LFI إن حتى هذا التقدير كان منخفضاً للغاية.
وتعهد حزب العمال الوطني بزيادة أجور القطاع العام، حيث قدر تحالف ماكرون أن هذا الإجراء سيكلف 20 مليار يورو.
ومثل حزب التجمع الوطني، سيعود حزب العمال الوطني إلى سن 62 عاماً باعتباره سن التقاعد، على الرغم من أن البعض في أقصى اليسار يريدون دفعه إلى 60 عاماً.
كما سيسعى إلى رفع الحد الأدنى للمعاشات التقاعدية إلى نفس مستوى الحد الأدنى للأجور، وهي خطة تقدر تكلفتها بـ 25 مليار يورو، وفقا لأرقام من LFI تمت مشاركتها مع معهد مونتين للأبحاث قبل عامين.
ويريد اليسار أيضاً تمويل 500 ألف مكان لرعاية الأطفال بتكلفة 28.5 مليار يورو على مدى خمس سنوات، وفقا لمعهد مونتين، فضلا عن دعم الطاقة وزيادة الإنفاق على الثقافة والرياضة.
كيف يمكن لليسار أن يدفع تكاليف خططه الإنفاقية؟
الضرائب والمزيد من الضرائب هي أداة اليسار لسداد تكاليف خططه الإنفاقية.
وعلى عكس الجبهة الوطنية، فقد عرضت على الأقل عديداً من الأفكار لزيادة الإيرادات لتمويل خططها. فهو سيعيد ضريبة الثروة وزيادتها، ويزيد ضريبة الميراث، ويعيد فرض ضريبة الخروج على الأثرياء الذين ينقلون إقامتهم الضريبية خارج فرنسا، ويزيد ضريبة الدخل ومدفوعات الضرائب الاجتماعية لأصحاب الدخل الأعلى. كما أنه سيلغي بعض الإعفاءات الضريبية والائتمانات للشركات.
وقال عضو البرلمان الأوروبي من أقصى اليسار والعضو البارز في حزب التحالف الوطني، مانون أوبري، إن "ميزانية المجموعة ستكون متوازنة بحلول نهاية الولاية".
كيف يمكن مقارنة ذلك بخطط ماكرون؟
يعد كل من اليمين المتطرف واليسار المتشدد بحدوث قطيعة جذرية مع أجندة ماكرون المؤيدة لقطاع الأعمال، في نفس الوقت الذي يلومونه فيه وحكومته على العجز الذي تضخم إلى 5.5 بالمئة.
وتعهد تحالف ماكرون الوسطي ببعض الهبات البسيطة للمساعدة في تخفيف ضغوط تكلفة المعيشة لكنه متمسك بتعهده بعدم زيادة الضرائب. وتتلخص رسالة حملتها الانتخابية في أنها الطرف الوحيد المسؤول مالياً.
قبل الانتخابات المبكرة، كانت الحكومة تتطلع إلى توفير 10 مليارات يورو أخرى من المدخرات هذا العام، بعد الإعلان عن تخفيضات قدرها 10 مليارات يورو في يناير. وقالت إنها ستحتاج إلى إيجاد ما لا يقل عن 20 مليار يورو في العام المقبل.
وقال كبير الاقتصاديين في أليانز، لودوفيك سوبران: "اليسار سيتسبب في هروب رؤوس الأموال، واليمين المتطرف سيتسبب في أزمة ديون..".
السيادة الاقتصادية!
يقول متحدث باسم حزب الاستعادة اليميني الفرنسي، جان مسيحة، في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- لا يوجد ما يسمى يمين متطرف.. إنه مصطلح يتحدث عنه اليساريون؛ لكي يخوّفوا به الشعب الفرنسي من عودة "اليمين القومي"، الذي يطالب بالسيادة والهوية الفرنسية.. وكلمة يمين متطرف هذه بروباغندا أيديولوجية للأحزاب اليسارية.
- ما يوصف باليمين المتطرف مطالباته تتلخص في السيادة السياسية والاقتصادي،ة والهوية، واحترام المواطن، واسترجاع الحدود؛ لأن العولمة واللا مركزية أدت إلى إلغاء الحدود الفرنسية..نحن أمام نوع من الغزو بواسطة القطب الإفريقي إلى فرنسا، إذ يدخل 500 ألف مهاجر شرعي وغير شرعي إلى فرنسا سنوياً.
- لا يوجد أي شعب في العالم يتحمل هذا الضغط، والانتخابات الماضية والمقبلة الشعب الفرنسي يعبر فيها عن استيائه لاجتياحه، خاصة من فقدان الهوية؛ بسبب كثافة الهجرة (..).
ويتحدث مسيحة عن الملفات الاقتصادية ذات الأولوية في سياق السياسات التي تتبعها الأحزاب اليمينية، قائلاً: "دعم القوة الشرائية أول مشروع لنا، سندعم أول 100 سلعة أولية للفرنسيين متوسطي الدخل، بجانب تخفيض أسعار الطاقة والكهرباء وكل ما يحتاجه المواطن الفرنسي، بجانب خفض الضرائب النفطية وضرائب الكهرباء، والخروج من معايير سوق الكهرباء في أوروبا، الذي يؤدي إلى تسعيرة كهربائية للمواطن الفرنسي أعلى بكثير من التسعيرة لو كانت قومية فقط".
ويضيف: "لدينا طاقة نووية تولد الكهرباء الرخيصة جداً، غير ألمانيا التي تركت الطاقة النووية، وتبني سياساتها على الفحم من جديد".
اقتصاد مترهل
من باريس، يؤكد الكاتب الصحافي، نزار الجليدي ، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن:
- المتتبع للوضع الفرنسي يجد أن الدولة تعيش اقتصاداً مترهلاً.
- الديون مرتفعة جداً، والوضع الاقتصادي لا يبشر بخير منذ فترة طويلة، وزاد على ذلك سياسات ماكرون القريبة جداً من "رأس المال الفاحش".
- مهما كانت هوية الحكومة القادمة ستكون أمام رهانات كبيرة جداً، وخسارات بالجملة، ذلك أن الوضع الاجتماعي متأزم، بجانب الوضعية السياسية لفرنسا، وخسارة الموارد الأساسية خاصة من إفريقيا بعد الخسارة الدبلوماسية.
- ومهما كان لون الحكومة القادمة سواء يسارية بامتياز أو يمينية متطرفة فستحتاج الى ضخ أموال كبيرة جداً، ومراجعات عالية خاصة في مراعاة القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي، كذلك في مراعاة المؤسسات الصغرى ووضع العمال.
ويضيف: البلد يعيش وضعية اقتصادية خانقة ويحتاج إلى زلزال أو تسونامي للسياسات الاقتصادية، وربما اليسار أقرب إلى المشروع الاقتصادي الحقيقي، وإعادة فرنسا إلى فلكها القديم أكثر من اليمين المتطرف، أو "اليمين الماكروني"، الذي لا يملك أية فرصة للنجاح في الانتخابات.. اليمين المتطرف يبني سياسات فقط على الإقصاء: إقصاء القوة المنتجة، وهم المهاجرين، بحسب "الجليدي.
وبين: "يبقى المشروع اليساري أكثر المشروعات الواقعية، والتي لديها طوق نجاة للاقتصاد الفرنسي المرتهن للضغط الأمير;ي والفقر الطاقي الفرنسي".
نقاط الاتفاق والاختلاف الرئيسية
على الجانب الآخر، يوضح الكاتب والمحلل المقيم في فرنسا، علي المرعبي، في تصريحات لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن حدة الدعاية الإعلامية ترتفع لجميع الأطراف المشاركة في الانتخابات (وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: اليمين المتطرف، وتيار الوسط، والتيار اليساري).. والمسألة ستكون حاسمة بين طرفين رئيسين: اليمين المتطرف، واليسار الراديكالي".
وتابع:
- بالنسبة للقضايا الداخلية، وخاصة الاقتصادية، هناك نقاط يتفق عليها الطرفان، ونقاط يختلفان حولها.
- يختلفان بشكل كبير مع طروحات يمين الوسط أو التيار الذي يقوده ماكرون.
- بالنسبة للرواتب، فكلا الطرفين يدعوان إلى رفع قيمتها، ورفع الحد الأدنى للأجور، والعودة لسن التقاعد لـ62 أو 60 سنة قبل أن يرفعه ماكرون إلى 64 عاماً.
- وبخصوص سياسة الضرائب، فتبرز هناك خلافات بين طرح اليمين المتطرف واليسار.
- النقاط الأخرى التي بها خلاف حاد بينهما، وتنعكس اقتصادياً هي مسألة المهاجرين وحرب أوكرانيا.. بالنسبة للمهاجرين الأجانب يطرح اليسار كامل الحقوق لهم، ويتفهم وضع اللاجئين في فرنسا، مع إيجاد حلول عادلة لهم حتى للغير شرعيين.
- بينما اليمين المتطرف يطالب بإبعاد المهاجرين غير الشرعيين بشكل كامل، وإعادة النظر في أوضاع كل اللاجئين الموجودين في فرنسا، والحد من قدوم المهاجرين.
- أما بالنسبة للحرب في أوكرانيا، وتمويلها من الخزينة الفرنسية، اليمين المتطرف يقول إنه سيحافظ إلى حد ما على دعم كييف دون الذهاب بعيداً في التمويل المالي والعسكري، ويعارض بشكل كامل ما صرح به ماكرون بشأن إمكانية إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا.
- بينما اليسار الفرنسي يطالب بإجراء مفاوضات مع روسيا، وحل الحرب سليماً، والحفاظ على المصالح الوطنية لأوكرانيا وروسيا.
ويردف: هناك ملاحظة مهمة للغاية، وهي أن القوى السياسية عندما تكون في المعارضة تكون إمكانية طرح البرامج الانتخابية بشكل فضفاض وواسع أكبر بكثير مما تكون عليه في السلطة، فالمعارضة لا توجد لديها التزامات بمؤسسات الدولة، ولا بمؤسسات إقليمية، ودولية. وبالتالي أوضح المرعبي أن المعارضة تستطيع طرح ما ترغب في برامجها الانتخابية، حتى اليمين المتطرف لو وصل للسلطة سيعدل الكثير من رؤاه.