هل تنجح سنغافورة في السيطرة على "نفط المستقبل"؟
16:06 - 09 نوفمبر 2023تخوض عدة دول في العالم ومنذ أكثر من عامين، سباقاً محموماً تهدف من خلاله إلى تعزيز ترسانتها من الرقائق محلية الصنع، وسط تفاعل عالمي متزايد نحو هذه الصناعة، التي باتت مسألة ملحة من الناحية التكنولوجية والجيوسياسة والأمنية.
وتحاول دول صناعية كبرى مثل أميركا والصين والهند وكوريا الجنوبية، تصدر المشهد في صناعة الرقائق عبر استثمار مبالغ خيالية وتقديم حوافز مالية، تهدف إلى جذب شركات تصنيع الرقائق الإلكترونية إلى أراضيها، ففي ظل التحول الرقمي الذي يشهده العالم، باتت الرقائق الإلكترونية العصب الحيوي لصناعات متعددة.
سنغافورة تصارع على "نفوذ الرقائق"
وفي وقت تتصارع فيه الاقتصادات الكبرى لتتزعم المشهد في هذا المجال الصناعي الواعد، اتجهت الأنظار في الآونة الأخيرة إلى سنغافورة، التي انضمت بدورها إلى قائمة الدول التي تسعى إلى تعزيز صناعة أشباه الموصلات المحلية، بما يمنع أي طرف في العالم من شلّ قدرتها على التطور في مختلف المجالات.
وخطوة انضمام سنغافورة إلى نادي المتصارعين على "نفوذ الرقائق"، أتت بعد إعلان GlobalFoundries مؤخراً، وهي ثالث أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، عن افتتاح مصنعها الجديد في هذه الدولة الصغيرة، التي يبلغ عدد سكانها أقل قليلاً من ستة ملايين نسمة، حيث ينظر إلى هذه الخطوة على أنها درس للدول الصناعية الكبرى، التي ترى أن الدول الصغرى لا تمتلك حظوظاً في اقتحام مجال الرقائق.
وتبلغ مساحة مصنع GlobalFoundries الجديد في سنغافورة، نحو 23 ألف متر مربع، وهو يوفر 1000 فرصة عمل، حيث ستكون المنشأة الجديدة قادرة على إنتاج قرابة الـ 450 ألف رقاقة سنوياً بحجم 300 ملم، عند الوصول إلى كامل طاقتها الإنتاجية، المتوقعة ما بين عامي 2025 إلى 2026.
كما تشمل عمليات GlobalFoundries في سنغافورة، التي تخدم نحو 200 عميل في جميع أنحاء العالم، مصنعين آخرين ينتجان سنوياً 720 ألف رقاقة بحجم 300 ملم و692 ألف رقاقة بحجم 200 ملم على التوالي، إذ تستخدم هذه الرقائق التي تعد كبيرة الحجم، في السيارات وتكنولوجيا الجيل الخامس.
ويعد أحدث مصنع لـ GlobalFoundries في سنغافورة جزءاً من خطة توسع للشركة في البلاد بقيمة 4 مليارات دولار، تم الإعلان عنها في يونيو 2021، في حين خصصت شركة United Microelectronics Corp لأشباه الموصلات التايوانية، استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار أميركي، لإنشاء مصنع جديد لها في سنغافورة، من المتوقع أن يبدأ أعماله في وقت متأخر من العام 2024.
هجمة على الاستثمار في "نفط المستقبل"
ويتعين على أي دولة تسعى لامتلاك قدرات تكنولوجية وصناعية وعسكرية متطورة، أن تسيطر على حصة في صناعة الرقائق العالمية، التي باتت تسمى صناعة "نفط المستقبل"، فكما بات معلوماً تعتبر الرقائق الإلكترونية العصب الحيوي لتشغيل الأجهزة الكهربائية، والهواتف المحمولة والسيارات والطائرات وشبكات الاتصالات والحواسيب، وأجهزة الإنتاج في المعامل والأجهزة الطبية الحديثة، وأنظمة التسلح والطائرات والصواريخ الحربية بما في ذلك الأسلحة النووية.
وفي ظل الهجمة العالمية على الاستثمار في تشييد مصانع للرقائق بمئات المليارات من الدولارات، برز إلى الواجهة تساؤل حول مدى قدرة سنغافورة دولة الـ 6 ملايين نسمة، على المنافسة في هذا المجال ومجاراة القوة المالية والبشرية، التي تتمتع بها واشنطن والصين وكوريا الجنوبية، في صراع المنافسة على "نفط المستقبل"، فهذه الدول الثلاث قامت بتخصيص مبالغ تفوق قيمتها الـ 500 مليار دولار أميركي، لتعزيز صناعة أشباه الموصلات على أراضيها على مدى 10 سنوات مقبلة.
ويقول الخبير الاقتصادي والمصرفي، بهيج الخطيب، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن ما يجب إدراكه أولاً هو أن سنغافورة ليست بوافد جديد إلى عالم تصنيع الرقائق، فهي دولة لها تاريخ طويل في هذه الصناعة، وذلك بدءاً من عام 1968 عندما جذبت عدداً من الشركات الغربية إلى أراضيها، ولكن المشكلة التي تعاني منها سنغافورة في هذا المجال، كانت افتقارها لتواجد شركات شهيرة مثل TSMC على أراضيها، معتبراً أن الخطوات الأخيرة التي قامت بها الدولة الصغيرة التي تبلغ مساحتها نحو 720 كلم فقط لتعزيز صناعة الرقائق على أراضيها، تدل على رغبتها بالدخول كطرف في الصراع الجديد على "نفوذ الرقائق".
لا تملك مقومات تزعّم السوق
وشدد الخطيب على أن الاستحواذ على حصة في صناعة الرقائق، "ضرورة حتمية" لأي دولة تسعى لتحقيق أمنها الاقتصادي والقومي، مع الأخذ في الاعتبار أن سنغافورة، لا تسعى لتزعّم صناعة الرقائق بل هي تريد أن تحجز مقعداً يضمن لها تواجداً ودوراً مقبولاً في هذه الصناعة، لافتاً إلى أن الدولة الآسيوية الصغيرة لا تملك المقومات التي تمكنها من الإطاحة بعمالقة الرقائق المستقبليين مثل أميركا والصين، ولكن بما تمتلكه من قدرات جيدة، يمكنها المحافظة على تواجد يؤمّن لها الاكتفاء الذاتي، وينهي إمكانية شلّ قدرتها على التطور في مختلف المجالات.
وبحسب الخطيب فإن سنغافورة، لا تستطيع أيضاً مجاراة القوة المالية التي تمتلكها واشنطن أو أوروبا أو غيرها من الدول الصناعية، ولكنها تمتلك أموراً قد تكون أكثر قيمة من المال، هي وضع سياسي مستقر، وبيئة صديقة للأعمال، وبنية تحتية شاملة تدعم تصنيع أشباه الموصلات، وحماية قوية للملكية الفكرية ونظام تعليمي عالمي المستوى، ونظام بيئي داعم لأشباه الموصلات، وقوى عاملة مدربة جيداً، فهذه مزايا مهمة للغاية كون الشركات دائماً ما تبحث عن الاستقرار، وعن أجواء تضمن لها استمرار خطوط انتاجها بالعمل وسط ظروف داعمة.
ووفق الخطيب فإن الدليل على أن المال ليس العامل الوحيد الكافي، لجذب شركات أشباه الموصلات، يبرز في ما يحصل في الهند التي قامت في عام 2021 بالإعلان عن حوافز بقيمة 10 مليارات دولار لتشجيع تصنيع الرقائق الإلكترونية على أراضيها، إلا أنها لم تنجح في جذب أي صانع كبير للرقائق، بسبب غياب الكثير من العناصر أهمها اليد العاملة الخبيرة، فالخبرة قد تكون أكثر قيمة من المال في صناعة الرقائق، وهذا ما تمتلكه سنغافورة، وما قد يعطي درساً للدول الأخرى، التي تأمل في اقتحام مجال الرقائق.
دور مشرق ينتظر سنغافورة
من جهته يكشف المحلل الاقتصادي إيلي الخوري أن سنغافورة اجتذبت أكثر من 16 مليار دولار، كاستثمارات في الأصول الثابتة خلال عام 2022، حيث كانت معظم هذه الالتزامات مدفوعة بقطاعات الإلكترونيات وأشباه الموصلات، وفقاً لبيانات مجلس التنمية الاقتصادية في البلاد، مشيراً إلى أن الحكومة هناك التزمت بضخ مبلغ 18 مليار دولار بين عامي 2021 و2025 لزيادة الاستثمار في قطاع أشباه الموصلات، عبر دعم البحث والتطوير والابتكار، كما أن سنغافورة تقدم تسهيلات للموظفين الأجانب في هذا القطاع، من خلال تسهيل عملية الحصول على تأشيرات العمل والمسائل التنظيمية المتعلقة بذلك.
ويرى الخوري أن التوقعات مشرقة للغاية بالنسبة للدور الذي ينتظر سنغافورة في عالم صناعة الرقائق الالكترونية، مرجحاً أن تتمكن دولة الـ 6 ملايين نسمة، من المنافسة في هذا المجال وتأمين مقعد ثابت لها في هذه الصناعة، معتمدة على عدة نقاط قوة تمتلكها، أهمها أجواء السلام والطمأنينة الموجودة على أراضيها ما يجعلها خياراً جذاباً للمصنعين، وهذا ما يفسر الاهتمام الذي نراه اليوم من شركات عالمية في توسيع أعمالها هناك، لافتاً إلى أن سنغافورة تمتلك نظاماً بيئياً ناضج لأشباه الموصلات، ما يساعدها أيضاً في اجتذاب المزيد من الاستثمارات المتعلقة بهذا المجال في المستقبل.