هل وصلت معدلات الفائدة إلى ذروتها في أوروبا؟
14:51 - 24 أكتوبر 2023تفرض مجموعة من الملفات نفسها على طاولة مسؤولي السياسات النقدية بالبنك المركزي الأوروبي، عندما يجتمعون هذا الأسبوع لاتخاذ قرار بخصوص أسعار الفائدة؛ سواء لجهة إقرار زيادة جديدة في حدود 25 نقطة أساس، أو الإبقاء على أسعار الفائدة كما هي دون تغيير.
ورغم تباطؤ الضغوط التضخمية، إلا أن التطورات الجيوسياسية الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، وارتباط أسعار النفط بها، هي عوامل حاضرة ضمن المؤشرات التي يُمكن الاستناد إليها في اتخاذ القرار المرتقب، وفي ضوء ما تفرضه تلك العوامل من تهديدات بمزيدٍ من الضغوط التضخمية، لا سيما مع سيناريوهات توسع الصراع إلى نحو أبعد مما تشهده المرحلة الحالية.
وفي هذا السياق، نقل تقرير لشبكة "بلومبيرغ" عن مجموعة من كبار مديري الأموال في منطقة اليورو، تأكيداتهم على أن البنك المركزي الأوروبي، لم ينته من دورة التشديد النقدي، وأن ثمة رهانات خاطئة من جانب المتعاملين على أن الـ ECB قد اجتاز مرحلة رفع أسعار الفائدة.
استعرض التقرير عدداً من العوامل الرئيسية التي تدعم ذلك الاتجاه، على رأسها ما يتعلق بتأثير الاضطرابات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط. ونقل عن عدد من الشركات المالية تأكيداتهم على أنه حال ما إن تصاعدت الأزمة الحالية في المنطقة فإن دول اليورو -وبوصفها مستورد صافي للطاقة- معرضة لمزيد من ارتفاعات الأسعار، وبما يعرض السندات الحكومية قصيرة الأجل للخطر.
كساد وركود سبقهما تضخم.. والخوف من القادم
لكنَّ هذا الرأي يتعارض مع تسعير المقايضات، والذي يشير إلى توقف البنك عن رفع أسعار الفائدة في اجتماعه الأسبوع الجاري، بينما لا تتعدى تقديرات رفع الفائدة بـ 25 نقطة نسبة الـ 10 بالمئة في اجتماع تالٍ. مقارنة بتقديرات المقايضات في الولايات المتحدة والتي ترتفع فيها نسبة توقعات رفع الفائدة ربع نقطة مئوية الـ 40 بالمئة.
وكان استطلاع سابق، نشرته الشبكة ذاتها الشهر الجاري، قد اعتبر أن خفض المركزي الأوروبي للفائدة ليس قريباً.
الآثار الاقتصادية
ويشير الاقتصاديون إلى أنه يتعين على المركزي الأوروبي، عبر رئيسته كريستين لاغارد وباقي الأعضاء، أن يدرسوا بعناية الأثر الاقتصادي لرفع الفائدة، حتى إذا واصلت أسعار الطاقة ارتفاعاتها. واستشهد التقرير في هذا السياق بأزمة "ديون إيطاليا" التي تجعل من اقتصاد روما اقتصاداً هشاً في مواجهة مثل تلك السياسات.
يأتي ذلك في وقت تتسع فيه حدة المخاوف بشأن احتماليات توسع الصراع في المنطقة منذ هجوم حماس على إسرائيل في السابع من الشهر الجاري، ومع الارتفاعات التالية التي شهدتها أسعار النفط، وبما يرفع من حدة الاضطرابات في طرق رئيسية للشحن الرئيسية (على غرار قناة بنما)، جنباً إلى جنب وتهديدات الطقس المتطرف الذي يضر إمدادات المواد الغذائية الأساسية، وذلك ضمن العوامل التي تشجع على إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة في أوروبا.
الإبقاء على أسعار الفائدة
من جانبه، يقول كبير الاقتصاديين بشركة "ACY"، نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إنه من بين الخيارين المحتملين أمام المركزي الأوروبي (وهما إما تثبيت أسعار الفائدة أو رفعها) فإنه على الأغلب سيكون القرار هو الخيار الأول (الإبقاء على أسعار الفائدة كما هي دون تغيير)، طبقا لتوقعات عديد من المحللين.
ويشير إلى انخفاض معدلات التضخم إلى 4.3 بالمئة على أساس سنوي، في سبتمبر الماضي، وهو انخفاض يصفه بـ "المعقول"، مشدداً في الوقت نفسه إلى أن معدلات التضخم سوف تستمر لفترة طويلة، بحسب تقديرات أغلب السياسيين ومسؤولي المصارف المركزية المحلية في الاتحاد الأوروبي.
- تشير بيانات وكالة الإحصاء التابعة للاتحاد الأوروبي، إلى تراجع المعدل السنوي للتضخم في منطقة اليورو، شهر سبتمبر الماضي، إلى أدنى مستوياته خلال عامين.
- سجلت معدلات التضخم ارتفاعاً بمعدل سنوي 4.3 بالمئة (وهو ما يشكل أدنى معدل مُسجل منذ شهر أكتوبر من العام قبل الماضي).
- جاء هذا التراجع بأكثر من المتوقع، إذ كانت تشير تقديرات المحللين إلى تراجع إلى 4.5 بالمئة.
- التضخم الأساسي (الذي يستثني الأسعار المتقلبة بالنسبة للطاقة والسلع الغذائية والكحول والتبغ)، تراجع من 5.3 بالمئة في أغسطس إلى 4.5 بالمئة في سبتمبر.
- تشهد معدلات التضخم تراجعاً مطرداً منذ الوصل إلى الذروة عند 10.6 بالمئة في أكتوبر 2022.
- رغم التباطؤ، تظل معدلات التضخم أعلى بكثير من هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2 بالمئة.
ويتحدث الشعار في السياق نفسه عن أثر التطورات الجيوسياسية على المنحنى الهابط لمعدلات التضخم واتجاهات البنوك المركزية إزاء التخلي تدريجياً عن سياسة التشديد النقدي، بقوله: "تأثير الأحداث الجيوسياسية موجود، ولكن ليس بشكل مباشر.. لقد شاهدنا على سبيل المثال ارتفاع أسعار النفط بسبب الأحداث في الشرق الأوسط، وهذا بدوره يؤدي لارتفاع المستوى العام للأسعار، ما يعني معدلات تضخم أعلى، وتضطر -تبعاً لذلك- المصارف إلى رفع أسعار الفائدة للتخفيف من الضغوطات التضخمية".
ويضيف: "في حالة اشتداد الأزمة، سوف تستمر أسعار الطاقة في الارتفاع، تتبعها في ذلك أسعار الغذاء وتكلفة الشحن، وكل أشكال البضائع والخدمات".
ويشار في السياق نفسه إلى الوضع المالي المضطرب في إيطاليا، باعتباره من بين العوامل الأساسية التي ينظر إليها المركزي الأوروبي. وبحسب عضو مجلس إدارة البنك، غابرييل مخلوف، فإن "فارق العائد على السندات الإيطالية بالمقارنة مع أقرانه، أمر سيركز عليه المسؤولون بشدة".
التشديد النقدي
ونقل تقرير "بلومبيرغ" المشار إليه في السياق نفسه، عن عددٍ من مديري الأموال في منطقة اليورو، تقديراتهم بخصوص اتجاهات المركزي الأوروبي، ومن بينهم:
- استراتيجيو أسعار الفائدة في "كوميرتس بنك" قالوا إن اتساع الفارق بين السندات الإيطالية والألمانية، علاوة على ما يشهده اقتصاد المنطقة من معاناة، هي أمور تجعل المركزي أقرب إلى عتبة المعاناة من الاحتياطي الفيدرالي. وتشير تقديراتهم إلى وصول الفائدة إلى ذروتها في أوروبا.
- رئيس استراتيجيات الأصول المتعددة في روبيكو، كولين غراهام، يحيل إلى الإجراءات التي اتخذتها الصين من أجل التحفيز الاقتصادي، بوصفها "سوف تؤثر على نوبات جديدة من ضغوط الأسعار في المنطقة".. وبالتالي يعتقد بأن المركزي عليه أن يرفع الفائدة بصورة أكبر.
التطورات الجيوسياسية
من جانبه، يشير الباحث في الشؤون السياسية والاقتصادية، حميد الكفائي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أنه من غير المتوقع أن يرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة هذا الأسبوع؛ لأن الاقتراض مازال مكلفاً للشركات والأعمال، خصوصاً مع خفض التنبؤات للنمو الاقتصادي لعامي 2023 و2024، وبقائه ضعيفاً للعام 2025، وارتفاع كلفة الاقتراض في الاتحاد الأوروبي عموماً.
وعلى الرغم من أن معدل التضخم قد انخفض في الاتحاد الاوروبي بفارق 6 نقاط مئوية عن العام الماضي (10.9 بالمئة)، إلا أنه مازل مرتفعاً عن الهدف الذي يحاول المركزي الأوروبي بلوغه.
ويشير إلى أن المشكلة أن "الصراع في غزة، إذا ما اتسع ودخلت فيه أطراف أخرى، واستمر لفترة أطول من المتوقع، فإن أسعار الطاقة سوف ترتفع (وقد ارتفعت فعلاً كنتيجة لذلك وكذلك بسبب توقع انخفاض درجة الحرارة هذا الشتاء)، الأمر الذي يدفع معدل التضخم نحو الأعلى، وبالتالي سيضطر البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة في المرة المقبلة لكبح ارتفاع التضخم الذي هو هدف أساسي للبنك المركزي".
ويضيف: "الوضع مازال غامضاً حول الاحتمالات الاقتصادية على الأمدين المتوسط والبعيد، خصوصاً مع تعنت إسرائيل وإصراراها على الدخول إلى غزة واحتمالات اشتراك حزب الله في المعركة وربما أطراف أخرى.. الخوف الآن من أن يتحول الكساد إلى كساد تضخمي، ما يعقد المشهد الاقتصادي كثيراً".
ويستطرد: "الكساد التضخمي هو الذي يقترن بارتفاع الأسعار أثناء الكساد، وهذا يجعل اتخاذ أي إجراء لخفض معدل التضخم صعباً جداً إن لم نقل مستحيلاً.. مع ذلك فالاتحاد الأوروبي تمكن من معالجة أزمة الطاقة والتخلص من الاعتماد على روسيا، مستبدلاً طاقتها بواردات الطاقة من الخليج وأفريقيا، ولكن الصراع في الشرق الأوسط سوف يعقد المشكلة.. ربما سيرفع وارداته من الغاز المسال من الجزائر التي انخفضت لسبب ما في العام الماضي، رغم ارتفاع صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا... هناك قدرة لدى الجزائر لزيادة صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي ولكن هذا لن يعوض مطلقاً عن الغاز القطري إذا ما تعرضت طرق الإمدادت إلى الإغلاق أو التعثر".
ويعتقد رئيس أسعار الفائدة الدولية في "فانغارد" أليس كوتني، بأن المركزي سوف يبقى على أسعار الفائدة دون تغيير في اجتماعه هذا الأسبوع، موضحاً أن ثمة رضا من جانب المتعاملين بالأسواق إزاء تشديد السياسة النقدية في الشهور المقبل (رغم أن الأسواق كانت تقلل -حتى الأسبوع الماضي- من فرص رفع الفائدة).
هذا التحوّل في التوقعات بشأن أسعار الفائدة تعززه العوامل المرتبطة بشكل مباشر بالأحداث الجيوسياسية والتوترات في منطقة الشرق الأوسط. ويعتقد خبير المخاطر المالية، محي الدين قصار، بأنه إن كانت ثمة تأثيرات اقتصادية للتطورات الجيوسياسية الراهنة، فإنها يمكن أن تتمثل في "تداعيات خفية" على المدى الطويل، حال ما إن اتسعت دائرة الصراع.
ويقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن تلك التداعيات تتمثل في أقصاها في التأثير على معدلات أسعار الفائدة (في إشارة إلى ضغط تلك العوامل الجيوسياسية على البنوك المركزية من أجل الإبقاء على معدلات الفائدة مرتفعة وإقرار زيادات جديدة ناجمة عن أثر التطورات الجيوسياسية حال توسعها).
لكنه يعتقد بأنه لا توجد تأثيرات مباشرة حتى الآن. ويأتي ذلك في خطٍ متوازٍ مع حالة عدم اليقين التي تسيطر على المشهد الاقتصادي في ظل تصاعد المخاوف المتعلقة بتطورات الأحداث الجيوسياسية الراهنة، وانعكاساتها المحتملة وفق السيناريوهات المطروحة.
المركزي الأوروبي
ورفع المركزي الأوروبي، أسعار الفائدة 10 مرّات منذ شهر يوليو 2022، ضمن مساعيه لكبح جماح التضخم، وفي ظل ضغوط ارتفاع الأسعار التي تفرضها تداعيات الحرب في أوكرانيا.
كان آخر تلك الزيادات في سبتمبر الماضي، عندما رفع المركزي -خلافاً للتوقعات السابقة- الفائدة بواقع 25 نقطة أساس إلى مستوى 4.5 بالمئة.
وتشير تقديرات المركزي الأوروبي إلى بقاء مستوى التضخم بمنطقة اليورو "مرتفعاً لفترة طويلة"، إلا أنه يتوقع أن يتراجع مستوى التضخم خلال عام 2025 إلى حدود 2.1 بالمئة.
وقال عضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، مارتينش كازاكس، الشهر الماضي، إن "المركزي سيبدأ في خفض الفائدة عندما يرى أننا بدأنا بشكل مستمر وكبير في تحقيق هدفنا"، مضيفا "يمكنني القول بوضوح إن التوقعات بخفض أسعار الفائدة خلال الربيع أو بداية الصيف، من وجهة نظري، هي توقعات لا تتفق حقيقة مع السيناريو الكلي الذي لدينا".
وذكرت رئيسة المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، في خطاب افتتاح مؤتمر السياسة السنوي للبنك المركزي الأوروبي في سينترا بالبرتغال منتصف العام، أنه "من غير المرجح أن يتمكن البنك المركزي في المستقبل القريب من الإعلان بثقة تامة بلوغ معدلات الفائدة لذروتها"، مضيفة "باستثناء حدوث تغيير جوهري في التوقعات، سنواصل زيادة أسعار الفائدة في يوليو".
كما قالت في الاجتماعات الأخيرة لصندوق النقد، إن سوق العمل في منطقة اليورو لا تظهر أي علامة على التباطؤ، على الرغم من بيئة اقتصاية شبه ركودية وسلسلة قياسية من زيادات أسعار الفائدة.