ألمانيا.. تحديات واسعة تهدد أكبر اقتصاد في أوروبا
17:11 - 11 أغسطس 2023تضغط عديد من التحديات المتزامنة على الاقتصاد في ألمانيا، حيث لا تزال معدلات التضخم تحلق بعيداً عن هدف الاتحاد الأوروبي البالغ 2 بالمئة، علاوة على ارتفاع معدلات الفائدة ضمن السياسات الرامية لكبح جماح التضخم وأثر ذلك على الاستثمار والصناعة، إضافة إلى أزمة الطاقة وأثر تباطؤ الانتعاش في الصين، وعوامل داخلية مختلفة من بينها نقص الأيدي العاملة، وغيرها من العوامل التي تواجه أكبر اقتصاد في أوروبا.
تعكس البيانات الاقتصادية في برلين، وآخرها البيانات المرتبطة بالقطاع الصناعي، عمق الأزمة التي يواجهها الاقتصاد الألماني، وبينما دخل مرحلة الانكماش التقني، وسط توقعات سلبية للمؤشرات الاقتصادية، عبر عنها على سبيل المثال معهد (Ifo) للأبحاث الاقتصادية في ميونيخ، بالإشارة إلى أن "الوضع الاقتصادي بالبلاد يزداد قتامة".
تنعكس تلك المؤشرات على مدى ثقة الألمان في الحكومة وسياسات المستشار الألماني أولاف شولتس، بحسب ما يُظهره مسح جديد بالتعاون مع معهد استطلاعات الرأي العام "Kantar"، ذكر أن مستويات التضخم في ألمانيا والتي بلغت أعلى معدلاتها منذ عقود، غذت الشعور المتزايد بعدم المساواة، وجعل غالبية الألمان يشعرون بأن الحكومة تخلت عنهم.
وفيما لا تبدو في الأفق بوادر واضحة على تجاوز الاقتصاد الألماني لتلك الأزمات، لا سيما مع استمرار الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها الواسعة على أوروبا والعالم، فما الذي ينتظر أكبر اقتصاد في أوروبا في المرحلة المقبلة؟ وكيف تواجه الحكومة الألمانية تلك الأزمات وتداعياتها واسعة المدى؟ وهل لدى الاقتصاد الألماني قدرة على تجاوز تلك المرحلة كما مراحل سابقة شهدت ضغوطات غير مسبوقة؟
تحديات الطاقة
من برلين، يقول الكاتب والمحلل منسق العلاقات الألمانية العربية في البرلمان الألماني، عبدالمسيح الشامي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن "الاقتصاد الألماني يعاني من مشاكل كثيرة من عدة جهات". أول تلك المشكلات مرتبطة بـ "أزمة الطاقة".
يصف الشامي تلك الأزمة بكونها "أم المشاكل"، والتي ترتبط بالشح الكبير في موارد الطاقة، بالنظر إلى أن برلين حتى الآن لم تستطع تعويض الطاقة التي كانت تستوردها من روسيا، من حيث الكمية والسعر. وهذا الأمر ينعكس على كل قطاعات الحياة المختلفة في ألمانيا.
ولا تزال أسعار الطاقة في ألمانيا مرتفعة نسبياً، بينما تكافح بعض الأنشطة الأكثر استخداماً للطاقة، مثل المواد الكيميائية، للعودة إلى مستويات إنتاجها قبل الحرب في أوكرانيا.
من جانبها، حذرت رابطة مُخزني الغاز المسال الألمانية، الخميس، من أن بلادها ستواجه خطر نقص إمدادات الغاز حتى مطلع 2027، إن لم تتحرك لزيادة البنية التحتية التخزينية للوقود، للوفاء بالطلب المرتفع خلال فصل الشتاء.
وأكدت أنه يجب على الإدارة الألمانية زيادة عدد محطات الغاز الطبيعي المسال، والسعة التخزينية، وخطوط الأنابيب، لتحقيق الاكتفاء من المعروض خلال الفترة المقبلة.
وأعربت الرابطة عن قلقها بشأن فصل الشتاء القادم، نظراً لامتلاء مخزونات الغاز في البلاد بنسبة 90 بالمئة في الوقت الراهن، ما يرفع من خطورة تعرض ألمانيا لأزمة طاقة في حال انخفاض درجات الحرارة بسرعة.
أزمة المواد الأولية
ثاني تلك الأزمات التي تواجه ألمانيا هي "مشكلات المواد الأولية"، والمواد الخام التي تدخل في الصناعات الألمانية، لا سيما صناعة التكنولوجيا وصناعة السيارات بشكل خاص على سبيل المثال، وقد تأثرت إمدادات تلك الموارد بالحرب في أوكرانيا على نحو بعيد (..). كما يشير في الوقت نفسه إلى الأزمة التي يواجهها القطاع الزراعي مع شح المواد الأساسية والسماد والبذور، وعدم وجد ما يكفي الحاجة المحلية من الإنتاج الزراعي (..).
- انخفض الإنتاج الصناعي في ألمانيا في يونيو بنسبة 1.5 بالمئة، وذلك بعد انخفاض نسبته 0.1 بالمئة في مايو، وفق بيانات مكتب الإحصاء "ديستاتيس".
- يأتي ذلك على خلفية ارتفاع تكاليف الطاقة وتباطؤ الطلب في هذا القطاع، الأمر الذي يؤثر منذ عدّة أشهر على القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا.
- انخفض إنتاج قطع غيار المعدّات بنسبة 3.9 بالمئة. فيما لم يقابل هذا الانخفاض ارتفاع كافٍ في السلع الاستهلاكية، التي ارتفعت بنسبة 1.8 بالمئة، والسلع الوسيطة التي ارتفعت بنسبة 0,4 بالمئة.
- قطاع السيارات شهد تراجعاً في إنتاجه بنسبة 3.5 بالمئة خلال شهر واحد.
وحذر في وقت سابق رئيس اتحاد قطاع الصناعات الألماني، سيغفريد روسورم، من أن "البلاد في الوقت الراهن تواجه جبلًا من التحديات المتزايدة".
الأوضاع المعيشية
وبالعودة لحديث الشامي، فإنه يشير إلى أن "كل هذه المشكلات الأساسية انعكست بشكل سلبي جداً على كل قطاعات الحياة داخل ألمانيا، الأمر الذي أدى بدوره إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي، ومع ارتفاع معدلات التضخم الاقتصادي بشكل كبير، الأمر الذي يعكس مشاكل معيشية كبيرة".
ولا يزال التضخم في برلين أعلى بكثير من هدف الاتحاد الأوروبي البالغ 2 بالمئة. وارتفع مؤشر أسعار المستهلك الألماني بنسبة 6.5 بالمئة على أساس سنوي في يوليو، وبلغ معدل التضخم الأساسي، الذي يستثني المواد المتقلبة مثل الغذاء والطاقة، 5.5 بالمئة في يوليو، بانخفاض من 5.8 بالمئة في يونيو. وتفضي تلك المعدلات إلى تراجع الثقة في الحكومة الألمانية.
كما يلفت الشامي في معرض حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى المشكلة المرتبطة بزيادة "الانفاق العسكري". ويقول في ذلك الصدد: "في الآونة الأخيرة -وبعد الحرب في أوكرانيا- ارتفع بشكل ملحوظ الإنفاق العسكري على حساب باقي القطاعات الأخرى (..) هذا أمر انعكس سلباً بشكل كبير جداً على القطاعات الاقتصادية، وتزامن مع تراجع الدخل القومي في ضوء تراجع الاقتصاد مع إغلاق كثير من الشركات ومع معاناة قطاعات عديدة بشكل كبير بسبب أزمة تأمين المواد الأولية في السوق.
وأظهر بحث أجراه معهد "WSI" نُشر في يوليو، أن العمال في ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، فقدوا حوالي 4.1 بالمئة من قوتهم الشرائية في العام 2022.
وأمام تلك المعطيات، يرى الشامي أن "برلين بدأت تدخل في مرحلة العجز الاقتصادي" على حد تعبيره، ويتوقف ذلك الأمر على مدى تغطية المخزونات والاحتياطات المالية، وكذلك مدى القدرة على تجنب المشكلات الاقتصادية للعبور من تلك المرحلة التي تشهد تأزماً بالوضع الاقتصادي والسياسي في أوروبا والعالم. لكنه لا يرى مؤشرات إيجابية تدل على أن هنالك أفق لحل هذه الأزمات سالفة الذكر. ويُرجع ذلك إلى أنه لا يوجد أفق حتى الآن لحل سريع للحرب في أوكرانيا (..).
- دخل الاقتصاد الألماني حالة ركود في الربع الأول من العام الجاري 2023، بعد انخفاض ربعين متتاليين في الناتج المحلي الإجمالي.
- تراجع النمو في الربع الأول من العام والربع السابق له بنسبة 0.4 بالمئة و0.1 بالمئة على التوالي.
- أفادت بيانات "ديستاتيس"، بركود إجمالي في الناتج المحلي في الربع الثاني من العام الجاري، لكن هذه الأرقام غير نهائية.
أي دور للحكومة؟
ويختتم الكاتب والمحلل منسق العلاقات الألمانية العربية في البرلمان الألماني حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" بالإشارة إلى أنه "حتى الآن لا توجد لدى الحكومة الألماني خطة حقيقية للخروج من الأزمة"، موضحاً أن برلين تحاول إعادة التموضع بشكل أو بآخر بعد الحرب في أوكرانيا بعد أن كانت تسعى للعب دور أوسع على مستوى العالم، لكن هذا الدور جاء في الوقت الخطأ (..) وينعكس الانفتاح السياسي والدور العسكري سلباً عليها ويشكل أعباءً ومسؤوليات وتكاليف مالية كبيرة وباهظة وفي المقابل لا يأتي بأي مكاسب.. وكل هذا يشير إلى أن الوضع في ألمانيا لا يبشر بخير.
- تتوقع المعاهد الاقتصادية الرئيسية تراجعا يقدر بين 0.2 بالمئة و0.4 بالمئة. فيما توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى انكماش بـ 0.3 بالمئة.
- ولا تزال حكومة المستشار الألماني، أولاف شولتس، تتوقع أن يسجل إجمالي الناتج المحلي نموا بنسبة 0.4 بالمئة، لكن هذه التوقعات العائدة لشهر أبريل قد يتم تخفيضها في الخريف.
قدرة على التعافي
في المقابل، يراهن محللون على قدرة الاقتصاد الألمانية على التعافي، وهو الرهان المٌستمد من تجارب سابقة خاضها اقتصاد برلين ونجح في العبور الآمن منها بعد ذلك.
من برلين، يقول الكاتب الصحافي، محمد الخفاجي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": لقد أثبت الاقتصاد الألماني أنه الأكثر مرونة في العالم؛ فخلال العقود الأخيرة مر بعدة أزمات، منها أوروبية ومحلية ومنها عالمية، إلا أنه استطاع التكيف معها والمرور بسلاسة واتجه نحو الانتعاش مجدداً.
ويشير إلى أن أزمة ركود السبعينات والأزمة العالمية في الألفينات وإفلاس البنوك الأميركية كلها كانت أزمات أوصلت بعض الدول إلى حافة الإفلاس، لكن بقي الاقتصاد الألماني مقاوماً، والآن مع وجود تأثيرات جائحة كورونا التي لم تكد تنتهي حتى بدأت الحرب في أوكرانيا إلى جانب بعض المشاكل الداخلية من قبيل نقص العمالة الماهرة وازدياد عدد المتقاعدين إلى جانب تباطؤ النمو السكاني "كل ذلك أثر سلباً على الاقتصاد، لكن الأمور لم تصل إلى الآن إلى حد الأزمة".
ويلفت الخفاجي إلى أن الحكومة الألمانية تسعى جاهدة إلى تفعيل قانون الهجرة والذي قد يسهم في حل جزء من الأزمة من خلال استقدام العمالة الماهرة ودعم بعض القطاعات الصناعية المهمة، وذلك ضمن خطوات نحو تخفيف العبأ على الاقتصاد.
إلا أن الخبراء يعتقدون بأنها خطوات غير كافية للإفلات من الركود -حسبما يشير خفاجي في معرض حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"- ومع أن بعض الأشهر الماضية شهدت تراجعاً في التضخم إلا أن ذلك يراه الخبراء غير كافٍ أيضاً لطمأنة المستهلكين.
ويشدد الكاتب الصحافي من برلين، على أن هنالك بعض القطاعات شهدت نمواً مثل قطاع التكنولوجيا، لكن هناك ملفات سياسية شائكة التي تواجهها حكومة ائتلاف إشارة المرور (التي ترمز لألوان أحزاب الائتلاف الاشتراكيين والخضر والليبراليين) التي أدت لتراجع حاد في شعبية المستشار شولتس إلى جانب تنامي شعبية اليمين المتطرف.. كل هذه التحديات تجعل الخبراء يحذرون من الوقوع في أزمة اقتصادية قد تؤثر على أكبر اقتصاد في أوروبا وبالتالي على الاقتصاد الأوروبي بأكمله.