"حديقة إفريقيا في تونس".. مقبرة لمهاجرين مجهولين لفظهم البحر
17:38 - 24 سبتمبر 2022تتنظر "حديقة إفريقيا في تونس" أو مقبرة المهاجرين مجهولي الهوية، في أكتوبر المقبل، تتويجا محتملا ضمن القائمة القصيرة لأفضل مشاريع العمارة في العالم، خلال الدورة الخامسة والأربعين لجائزة الآغا خان للعمارة العالمية، التي تنتظم عام 2022 في سلطنة عمان.
وتعد "حديقة إفريقيا في تونس" أكثر من مجرد مقبرة للمهاجرين مجهولي الهوية الذين قضوا في البحر، في ملاحقة حلم الجنة الأوروبية، فهي محطتهم الأخيرة على شواطئ تونس، وفرصة لأهاليهم للتعرف على جثثهم يوما ما، بعد إجراء اختبارات جينية قد تحولهم من مجرد أرقام إلى أشخاص بهويات محددة.
كما أنها معلم أثري وتاريخي بمعمار مميز، جعل منها محل اهتمام فنانين وإعلاميين ونشطاء من كل العالم، فضلا عن دورها الإنساني في حفظ كرامة الضحايا من المهاجرين مجهولي الهوية.
" أردت أن أعطيهم جزءا من الجنة بعد جحيم محاولات عبور البحر إلى أوروبا سرا".. بهذه الكلمات تحدث الرسام الجزائري رشيد القريشي، لموقع "سكاي نيوز عربية"، عن سبب إنشائه لمقبرة المهاجرين الغرباء في مدينة جرجيس الساحلية، جنوب شرقي تونس.
وتابع: "الكثير من المهاجرين غير الشرعيين الحالمين بالجنة الأوروبية انقطعت بهم السبل داخل البحر المتوسط وتوفوا بين أمواجه، ليتم انتشالهم من قبل فرق الإنقاذ أو ليلفظهم البحر على شواطئ تونس. أردت أن أساهم في منحهم نهاية كريمة بدفنهم في مقبرة مخصصة لهم، لعلها تتيح الفرصة لأسرهم للتعرف عليهم يوما ما".
وبدأ القريشي مشروعه الإنساني الفني قبل 5 سنوات، عندما قرر إنشاء مقبرة لدفن المهاجرين المجهولين، وأطلق عليها اسم "حديقة إفريقيا" لتضم قبورا لمهاجرين من جنسيات مختلفة ومجهولي الهوية .
واستطرد: "ترسخت لدي الفكرة عندما هاتفتني ابنتي عائشة، التي تنشط في منظمات حقوقية دولية، وحدثتني عن مشكلة تراكم جثث المهاجرين بانتظار دفنها في تونس، ثم رافقتها لمدينة جرجيس وهناك شاهدت جثث المهاجرين المكدسة في انتظار مكان لدفنها، وأمام المشهد الصادم قررت فعل شيء لحل المشكلة".
وأشار إلى أنه "بدأ بالبحث عن أرض فلاحية قريبة من مقر إيواء المهاجرين الناجين، لتحويلها إلى مقبرة للمهاجرين مجهولي الهوية".
تجدر الإشارة إلى أنه "من بين الأسباب التي دفعت بالفنان نحو الإيمان الراسخ بقضية المهاجرين غير الشرعيين، فقدانه لشقيقه منذ عشرات السنوات في البحر أثناء رحلة هجرة غير شرعية.
تصميم المقبرة
وتابع الرسام: "لقد صممت تصورا هندسيا للمقبرة لتضم مكانا لغسل الموتى وآخر لحفظ الجثث وعيادة للحصول على عينات التحليل الجيني ومصلى لجميع الشعائر الدينية. شيدتها بطابع فني أثري، حتى أن بابها يعود للقرن 17 ومعمارها يوظف مواصفات فنية محددة استغرق مني ضبطها 4 سنوات".
وأكد أن مقبرة المهاجرين المجهولين "شُيدت على شكل معلم فني وتاريخي، ونالت تنويه اليونسكو ومختلف زائريها من دول العالم، فالفضاء يحتوي على نقوش من الخزف اليدوي وباب أثري وبيوت صلاة لكل الأديان السماوية".
ولم يكتف الرسام الجزائري بالاهتمام بالجانب المعماري فقط عند تشييده للمقبرة، بل حرص على أن تكون لها حديقة مميزة بكل مكوناتها ورموزها، حيث تتوسطها شجرة زيتون عمرها أكثر من 130 سنة، قائلا إنها "رمز للسلام في الدين الإسلامي"، وحولها 12 من أشجار الكروم "رمز للقديسين في الديانة المسيحية".
وحدثنا القريشي أنه حرص أيضا على أن يكون بجانب كل قبر إناء يمتلئ بماء المطر لتشرب منه الطيور العابرة قبل سفرها، في إشارة لرحلة سلام وأمل يخوضها المهاجرين قبل أن يفارقوا الحياة.
كما زرع أشجار البرتقال المر "مرارة الموت الذي تنتهي إليه رحلة الهجرة غير الشرعية"، وأشجار الرمان ذو الحبات المتراصة "دعوة للتضامن والتراحم بين الشعوب"، وأشجار الياسمين العطرة "لنسيان روائح جثث الضحايا التي تصل إلى الشاطئ متعفنة".
أعمال توسعة
ويعمل القريشي على توسعة حديقة إفريقيا لأنها بدأت تضيق بأعداد جثث المهاجرين، سواء بتهيئة أراضي مجاورة أو بناء طوابق للقبور، خاصة أن الجثث توضع داخلها في أكياس بلاستكية مخصوصة، حتى تسمح بنقل الرفات في حال ظهر أهالي المهاجرين المتوفين وفضلوا نقلهم إلى بلدانهم الأصلية.
كما نوه إلى أن "حديقة إفريقيا" كلفته "ما جمعه من أموال طيلة 50 سنة، إلى جانب ثمن منزله وقرض بنكي، من أجل حفظ مئات الجثث لمهاجرين قضوا في البحر هروبا من جحيم الحروب أو الفقر، قادمين من بنغلادش وليبيا وباكستان ودول إفريقيا جنوب الصحراء، لتكون شواطئ تونس محطتهم الأخيرة، ومن أجل إكرامهم بالدفن في مكان لائق".
من جانبه، قال الناشط في منظمة الهلال الأحمر التونسي ورئيس جمعية حديقة أفريقيا، منجي سليم، في تصريحات لموقع "سكاي نيوز عربية"، إنهم "يهتمون في المجتمع المدني بدفن وإكرام ضحايا الهجرة غير الشرعية الذين لفظتهم الأمواج على شواطئ جرجيس، لكن تزايد أعدادهم في السنوات الأخيرة، خاصة مع تأزم الوضع في ليبيا، أدى إلى ضيق المقبرة العمومية، التي كانت تعرف باسم "مقابر الغرباء" بهم.
وأشار إلى أنه "من هنا جاء مشروع حديقة أفريقيا، ليحل المشكلة"، موضحا أنه "المشروع الوحيد في العالم الذي يهتم بضحايا الهجرة غير الشرعية".
واستطرد سليم بالقول إن "بعض العائلات، حتى بعد صدور نتائج التحليل الجيني ومعرفة هوية الضحايا، تفضل زيارة أبنائها في مقبرة جرجيس وعدم نقل رفاتهم إلى بلدانهم".
ولفت كذلك إلى أن "حديقة أفريقيا تضم مئات الراحلين بقصصهم الإنسانية المختلفة، من بينهم المرأة التي توفيت محتضنة طفلها في محاولة للنجاة معه، والشاب الذي صارع الأمواج لساعات ثم هزمته، والمهاجر الذي هرب من الموت في الحرب فقضى في البحر، وكلهم لا تزال هويتهم غير معلومة وربما لا تزال أسرهم في انتظار رسائل منهم لن تأتي أبدا".