منى السعودي.. رحيل مؤلم لنحّاتة الحياة والأرض
22:30 - 17 فبراير 2022بعد صراع مع المرض، غيّب الموت، الأربعاء، التشكيلية الأدرنية، منى السعودي، التي كانت توصف قيد حياتها بـ"صديقة الحجر".
ونعت وزيرة الثقافة الأدرنية، هيفاء النجّار، الراحلة بقولها، في بيان صحفي تناقلته المواقع الأردنية: "رحيلها لا يمثّل خسارة للأدرن والعرب فقط، بل للحركة التشكيلية العالمية، التي كانت واحدة من أبرز رموزها".
كما نعتها الناقدة اللبنانية، رنا النجّار، عبر حسابها على تويتر: "وداعًا منى السعودي النحاتة الفلسطينية، الأردنية، السورية، اللبنانية، الفرنسية، والبريطانية التي أعطت لكل بلد عاشت فيه حياة في منحوتاتها لكنها اختارت بيروت لتكون خيمتها وبيتها الأخير لتودع في أرضها الحياة".
بينما قال الفنان التشكيلي عبود سلمان، على تويتر: "التشكيلية العربية الأردنية الفلسطينية الكبيرة، منى السعودي، إحدى كبار الفنانات التشكيليات العربيات الراحلات، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته".
وتابع عبر حسابه: "كانت أجمل عيون المحبة، التي لم تذخر جهدًا لدعم أحد، ممتن لمعرفتي بك وابتسامتك".
ووصفها الصحفي اللبناني، يقظان التقي، عبر تويتر أيضا، قائلًا: "منى السعودي زمن في المدينة، نجمة (السيتي كافييه)، ونجمة الصالونات التشكيلية وآخرها في صالة صالح بركات في بيروت".
وتابع: "فنانة صعبة عند بعض المثقفين، التقيتها بإلحاح، امرأة غاية في الأناقة والشغف والسيطرة على اللغة التعبيرية والأدوات والكياسة الخاصة، نخسر بغيابها حالة فنية خاصة".
حياة التماثيل
التماثيل؛ يمكن أن تكون العنوان الرئيس لحياة التشكيلية الراحلة المولودة في 1945، حيث احترفت النحت في سنّ العشرين، وظلّت في ترحالٍ دائمٍ بين باريس وعمّان وبيروت، حتى استقر بها الأمر في الأردن.
لم تر السعودي (وهي لا تزال ابنة العاشرة من عمرها) في الموتِ فاجعة؛ بل رأته تحوُّلًا، حسب ما تحكي عن وفاة أخيها فتحي في كتابها "40 عامًا من النحت".
البساطة والاكتفاء
وتتحدث عن طفولتها قائلة: "كنتُ أترك أصدقائي الصغار لألعب مع التماثيل، أتحاور معها، أتأمل ثناياها، وصناعتها، وكنت أشعر أنها مخلوقات صامتة مليئة بالحياة".
وتضيف: "حين اخترتُ أنْ أكونَ نحّاتة، اخترتُ طريقة في الحياة، ولكي تكون نحّاتًا ينبغي أن تكون عاشقًا للأرض وما عليها، وأن تلمس نبضها الحيّ".
وتُعرِّف السعودي النحت لديها بأنّه "تجسيد للشعر، قول ما لا يُقال، لمس ما لا يُلمس، هو الكلام الصامت، الحركة في السكون، الكشف والسر، الطيران بلا أجنحة، مزج الكوني بالأرضي، إدخال الزمن في المكان، نسج القداسة بإعادة التكوين والتواصل بالغيب".
وعلى الرغم من ذيع صيتها في العالم العربي والعالمي أيضًا، وتزيين لوحاتها لأشهر المعارض العربية والعالمية؛ إلا أنّها "لم تر نفسها نحّاتة أو خطّاطة أو حتى رسّامة".
وتقول في حوارٍ لها نشر عام 2017 على مجلّة "فوغ" الأميركية: "لا أُصنِّف نفسي كنحاتة أو رسامة وخطاطة، بل أرى نفسي فيها كلها، أعمالي هي أنا، تحمل بصمتي وأفكاري، منذ كنت صغيرة أرسم، ألوّن، أشكل، أنحت، وقد سبرت خلال نصف قرن من احتراف الفن أغواره وطرقه المختلفة".
هندسة الروح وأمومة الأرض
لعلّ أشهر منحوتات السعودي، والتي ذاع صيتها، منحوتة "هندسة الروح" التي تقف في ساحة مدخل معهد العالم العربي بباريس، الذي يرتفع لثلاثة أمتار ونُفّذَ من الرخام، بالإضافة إلى منحوتة "أمومة الأرض"، والتي تعتبر باكورة أعمالها في عام 1965.
تقول عن منحوتة أمومة الأرض: "أطلقت عليها هذا الاسم، فأصبحت بالفعل الأم الحقيقية لكل المنحوتات التي أنجزتها طوال رحلتي".
واعتبرت أنَّ رحلتها في فنّ النحت من 1969 لـ1983 كانت من أهم المراحل إنتاجًا واكتسابًا للخبرة التي جعلت لإنتاجها هُويّةً وشكلًا انطلقتْ به عربيًّا وعالميًّا.
وبحسب ما هو متداول عن الراحلة؛ فإنَّ آخر معرض لها كان في بيروت، في "غاليري صالح بركات" عام 2017، والتي عرضت خلاله منحوتات ورسوم أنجزتها بين عامي 1995 و2017.
الحياة والحرية
لم ترَ السعودي أنَّ منحوتاتها تؤرخ للموت، بل للحياة: "يؤكد عملي على أفكار النمو والخصب والتكوين، على كل ما هو حيّ وإيجابي في الحياة، لا أفكر في مرور الزمن. منذ كنت في الثامنة عشرة، وأنا الآن في الثالثة والسبعين، لا أخفي عمري، ولا أفكر في مسألة التقدّم في السنّ"، حسب ما قالت في حوار مجلة "فوغ".
وعرفت منى معنى الحريّة منذ سفرها إلى باريس، وأشارت إلى أنَّ "أباها تفهّم رغبتها متحديًا تزمتُّه الديني، بعد رسالةٍ أرسلتَها له تشرح فيها فلسفتها في الحياة".
وقالت عن تلك الفترة: "منذ ذلك الزمن انتزعت حريتي الكاملة في الحياة واعتمدت تمامًا على نفسي، فالحرية تنتزع ولا تعطى، وتجاوزي الحدود حرّر نساء في عائلتي".
الشعر
لم تقف التشكيلية الراحلة عند فنّ النحتِ فقط؛ بل امتد إبداعها ليصل إلى الشعر، والذي تقول عنه في كتابها "أربعون عامًا من النحتِ": "عادة ما أكتبه يتداخل مع تجربتي النحتية، شعري هو شِعْر من يعمل في تكوين الحجر".
وصدر للسعودي ديوانان، الأوّل هو ديوان "رؤيا أولى" عام 1970، والثاني ديوان محيط الحلم عام 1993.
وكتبت منى القصائد وهي في عمر الـ17 عامًا، وتصف أعمالها بكونها تأتي من ذاكرة شعرية، ومزجت بين الشعر والرسم، حتى أنَّ بعضًا من منحوتاتها نبع من قصائد محمود درويش.
وبحسب حوارٍ لها في صحيفة "الإمارات اليوم"، فإنّ منى "ترتبط بمجموعة من الشعراء، فهي تحبّ علاقة محمود درويش بالأرض، وأمومة الأرض، وتصفها بأنها أمومة فلسطين والأرض بشكل عام، بينما وجدت في شعر أدونيس البُعد الفلسفي".
رحلتْ منى السعودي، لكن أعمالها ستظل شاهدة على تشكيلية رائعة لم تستسلم لقيود المجتمع وتيأس من ظروفِ حياتها.