الحاجة الحمداوية.. فنانة الملوك وأيقونة العيطة في المغرب
22:41 - 05 أبريل 2021ودعت عملاقة الفن الشعبي المغربي الحاجة الحمداوية، اليوم جمهورها، الذي تعود على إطلالتها بلباسها المغربي البهي وبين يديها دفها الشهير الذي لم يفارقها طيلة مشوارها الفني على مدى أزيد من 7 عقود، والذي أبدعت فيه أغاني خالدة في فن العيطة المغربي (تراث موسيقي شفوي).
وشهدت الحاجة الحمداوية المجد الذهبي للأغنية المغربية، وصدح صوتها عاليا قبل الاستقلال وبعده، وعاصرت عهد الملك محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، وغنت أمام ملوك وأميرات في مسارح وقصور.
ورحلت فقيدة الفن الشعبي المغربي، عن عمر ناهز الواحد والتسعين سنة، بعد صراع طويل مع المرض أدخلها قبل أيام قسم العناية المركزة بإحدى مستشفيات العاصمة الرباط، حسب عائلتها.
البداية من أب الفنون
ولدت الراحلة واسمها الحقيقي الحاجية الحمداوية سنة 1930 وترعرعت بمدينة الدار البيضاء، وكان والدها من عشاق فن العيطة، ودأب على استدعاء فرق الشيخات والشيوخ (فنانو العيطة) في المنسبات العائلية والأفراح في بيتهم بالحي الشعبي مرس السلطان.
المالوف.. تواشيح التحدي والبقاء
وبدأت الحاجة الحمداوية، مشوارها الفني من المسرح عندما انضمت لفرقة الفنان بوشعيب البيضاوي، رفقة عدد من الأسماء الوازنة، قبل أن يكتشف الأخير الخامة الصوتية التي تمتلكها الراحلة وإمكاناتها الفريدة في الغناء، ولا سيما في فن العيطة، الذي تحولت ومنذ ستينيات القرن الماضي إلى رائدة من رواده في المغرب.
واستطاعت الحاجة الحمداوية ومنذ ذلك الحين أن تطبع بصمتها الخاصة على هذا اللون الغنائي الشعبي، وتحافظ على كلماته التراثية بتوزيع عصري، حيث حازت أغانيها على شهرة واسعة، وحضيت بانتشار كبير في المغرب، وقادها تألقها إلى القيام بجولات فنية في مختلف دول العالم، لنشر فن العيطة ولقاء أفراد الجالية المغربية في الخارج.
وتركت الفقيدة وراءها ريبيرتوارا شعبيا غنيا في فن العيطة المغربي، وكانت من أنجح أغانيها (دابا يجي)، (منين أنا ومنين أنت)، (آش جا يدير)، (هزو بينا لعلام)، (مما حياني)، (الكاس حلو)، والقائمة طويلة من الإنتاجات الفنية التي ضلت راسخة، وترددها أجيال متعاقبة.
الفنانة المقاومة
وعرفت الفنانة الحمدواية خلال فترة الاستعمار الفرنسي بمقاومتها للتواجد الأجنبي في المغرب عبر الفن والكلمة، وكانت أغانيها تحمل رسائل مشفرة وإيحاءات ضد المستعمر، وهو ما لم تستسغه سلطة الحماية الفرنسية آنذاك، وقادها فنها إلى مخافر الشرطة للتحقيق معها في العديد من المناسبات في فحوى الأغاني التي تصدرها.
ومن بين الأعمال الفنية التي كانت وراء اعتقال الحاجة الحمداوية والزج بها في السجن أغنية تقول كلماتها "آش جاب لينا حتى بليتينا الشيباني..آش جاب لبينا حتى كويتنا آ الشيباني.. فمو مهدوم فيه خدمة يوم..مقدم الكرعة مات بالخلعة"، حيث اعتبرت سلطات الحماية أن مضمونها موجه لابن عرفة الذي عين في منصب السلطان خلفا للسلطان الشرعي المنفي آنذاك، محمد الخامس.
التضيق الذي تعرضت له الحمدواية خلال فترة الخمسينيات من طرف سلطات الحماية، دفعها للهرب والاختباء في فرنسا، قبل أن تقرر العودة إلى المغرب بعد الاستقلال لتتحول بعدها إلى المغنية المفضلة بالنسبة لمعظم شرائح المجتمع المغربي.
وسمح المقام في باريس للراحلة بالتعرف على عدد كبير من الفنانين المغاربة والأجانب، وفور رجوعها إلى المغرب تسلقت الحمداوية سلم النجاح لتصل إلى القمة، حيث غنت في أفراح العائلة الملكية و أمام كبار الجنرلات والسياسين، وكانت الفنانة الأكثر طلبا في المهرجانات الشعبية.
شهادات في حق أيقونة العيطة
وتجمع بين الراحلة والعديد من الفنانين ممن عايشوا مسيرتها، علاقة قوية امتدت لجيل الفنانين الشباب من مطربي الفن الشعبي الذين صقلوا مواهبهم بالاستعانة بأغانيها الخالدة وبتقنيات أدائها المتفردة.
يقول الفنان الشعبي الحاج عبد المغيث، لـ"سكاي نيوز عربية"، إن المغرب فقد اليوم هرما كبيرا ألهم العديد من الفنانين الذين ظلوا يرددون أغانيها الراسخة في كل المناسبات.
ويوضح الفنان الشعبي أن "الفقيدة حافظت على الكلمات التراثية، وفي نفس الوقت أضفت لمستها الخاصة على فن العيطة، وأدخلت عليه توزيعا موسيقيا جديدا، وأضافت آلات موسيقية أخرى، لتكون أول فنانة عيطة تغني رفقة أوركسترا، وتؤسس بذلك مدرسة خاصة بها".
أما الفنان خالد البوعزاوي، الذي زار الحاجة الحمداوية بأحد مستشفيات الرباط، قبل وفاتها بيوم، فيعتبر الراحلة "حالة غنائية لا تتكرر، بمعاصرتها لثلاثة أجيال وتألقها على الساحة الفنية إلى حدود وقت قريب من تاريخ وفاتها".
ويقول الفنان الذي كانت تجمع الراحلة علاقة صداقة قوية به وبإخوته في فرقة "أولاد البوعزاوي ، في تصريح لـ"سكاي نيوز عربية": " بالرغم من تقدمها في السن فقد ضلت تتمتع بإمكانية غنائية وبخامة صوتية استثنائية تميزها عن غيرها من الفنانين".
ويستطرد الفنان المتخصص في العيطة والذي سبق أن جمعه تعاون فني مع الفقيدة، أن الأخيرة كانت تعرف بشخصيتها المرحة وكانت تعيش من أجل الفن، وتكن حبا كبيرا لجمهورها الذي كان يبادلها بالمثل وتلقى منه كل الاحترام والتقدير.
من جانبها، تستحضر الفنانة خديجة البيضاوية، الذكريات التي جمعتها بصديقتها الراحلة قائلة: "لم تغالب الحاجة دموعها في أول لقاء بيني وبينها أثناء استماعها لأدائي لمقطع من إحدى أغانيها المشهورة، لتعبر لي بكل تلقائية عن إعجابها بصوتي وبأدائي".
وتؤكد البيضاوية الاسم اللامع في مجال فن العيطة في المغرب لـ"سكاي نيوز عربية" أن كل من عايش الراحلة سواء عن قرب أو من بعيد، يتفاجأ بسيدة في قمة التواضع، رغم مكانتها وتاريخها وما قدمته للفن المغربي، ويكتشف مدى حبها للناس، وسخائها الذي قادها لتقديم الدعم والمساندة لفنانين من الجيل الصاعد.
قرار الاعتزال
لم تكن فكرة اعتزال الغناء تراود الراحلة، التي عاشت حياة الفقر والغنى، و كانت تعول عائلتها الكبيرة، إلا في صيف السنة الماضية عندما قررت منح قائمة أغانيها وموروثها الفني حصريا للفنانة الصاعدة كزينة عويطة.
حيث أعلنت خلال ندوة صحفية جمعتها بالفنانة الشابة عن قرار اعتزالها وتوقيعها لعقد لا يحق بموجبه لأي فنان آخر أن يتصرف في أغانيها دون الرجوع إلى الفنانة الصاعدة والحصول على موافقتها.
وكان آخر أعمال هرم فن العيطة في مسيرتها الطويلة، "ديو" جمعها مع الفنانة كزينة عويطة، وكان يحمل عنوان "حاضيا البحر"، وصور على طريقة الفيديو كليب.