على ظهر دراجة.. قصص اكتشاف "العظام القديمة" في مصر
23:24 - 31 يناير 2021قبل خمس سنوات، وفي قلب الصحراء الغربية، دراجة نارية يستقلها رجلان، تقطع طرق غير ممهدة، وتعترضها أحيانًا الرمال فتتوقف، ورغم صعوبة الرحلة، تستمر المعافرة، حتى الوصول إلى النقطة البحث المرجوة.
هذه الدراجة النارية كانت تُقِل دكتور جبيلي أبو الخير الذي يحمل العلم في جعبته، بينما يقودها عم أحمد فراج أحد العارفين بأسرار الصحراء؛ حيث التقى الرجلان عن طريق صدفة قادتهما فيما بعد للتفتيش عن حفريات قديمة في صحراء مصر الغربية.
كان الشغف بالعلم وحده كفيلا أن تكون هذه الرحلة البسيطة بداية طريق بحثي مُلهم، عُثر فيه على اكتشافات حفريات قديمة شغلت الأوساط العلمية العالمية، بعد أن أوضحت الأوراق العلمية أهميتها وتفردها.
اكتشافات مثيرة
قبل أيام قليلة، وافقت دورية Acta Palaeontologica Polonica”"، المرموقة في علم الحفريات القديمة، على نشر ورقة بحثية تُقدم بها ثلاث باحثين مصريين، على رأسهم الدكتور جبيلي أبو الخير، الدكتور محمد قرني عبد الجواد، والدكتور وليد جمال كساب.
وبحسب الورقة البحثية التي وافقت على نشرها الدورية البولندية، التي تصدر عن معهد باليوبيولوجي التابع لأكاديمية العلوم البولندية، فسيتم كشف النقاب عن جزء من ذراع سلحفاة بحرية عملاقة، يعود عمرها إلى 70 مليون سنة، في العصر الطباشيري.
أهرامات الجيزة.. آسرة للقلوب ومصدر للقصص
إضافة إلى الاكتشاف الأخير، توجد عدة حفريات أخرى تعود جميعها إلى العصر الطباشيري، وتتراوح أعمارها من 70 مليون سنة إلى 75 مليون عامًا، وهي محفوظة في مركز الحفريات بجامعة وادي النيل، جنوب غربي مصر.
من بين هذه الاكتشافات زاحف عملاق اسمه "بليسيوزورس" (البليزوصورات)، وهو نوع من الزواحف الضارية البحرية، وكان على قمة السلسلة الغذائية في "البحر التيثي" جد البحر المتوسط.
أيضًا هناك سلحفاة نهرية كبيرة في حالة جيدة من الحفظ، اُكتشفت في مدينة الخارجة، إلى جانب عضد سلحفاة بحرية عملاقة، وهي موضوع الورقة البحثية التي أخذت موافقة النشر من الدورية البولندية.
اكتشافات على ظهر دراجة نارية
الدكتور جبيلي أبو الخير، أستاذ الحفريات الفقارية بكلية العلوم، يروي قصة هذه الحفريات التي واجهتها مصاعب لا حصر لها، خاصة في بداية الطريق، فعندما جاء إلى الجامعة قبل خمس سنوات، لم يكن هناك إمكانيات تساعد على البحث عن الحفريات في الصحراء.
يقول جبيلي لموقع سكاي نيوز عربية، إن هذه الحفريات بدأت مع التحاقه بكلية العلوم بجامعة جنوب الوادي، حينها نظم رحلة علمية في الصحراء لطلاب السنة الثالثة بالكلية، وأرفقت وزارة الأثار معنا مفتش آثار، وخفير يعمل أيضًا في الآثار.
يضيف أستاذ الحفريات الفقارية، إن كلمة السر كانت عند خفير الآثار، أحمد فراج، الذي رافقهم خلال الرحلة الجامعية؛ حيث دار حوار معه، أخبره جبيلي خلاله أنه يعمل على التنقيب عن حفائر قديمة، ليخبره على الفور الخفير أنه صادف بعض العظام في الصحراء.
ويوضح جبيلي أنه وجد لدى الحاج أحمد فراج خبرة واسعة وذكاء فطري في فهم الصحاري والتعامل معها، فهو دليل متميز جدًا، ومن هنا اتفقا الرجلان على التحرك سويًا للبحث عن "العظام القديمة"، أو ما يعرف علميًا باسم الحفريات.
"كانت هناك مشكلة في التنقل، فالجامعة لا توفر وسائل تنقل في الصحراء، مثل سيارات الدفع الرباعي، ولم يكن أمامنا سوى التحرك بالدراجة النارية التي يمتلكها، الحاج أحمد فراج".
ويصف الباحث المصري، المشقة التي قابلتهم أثناء رحلة البحث عن الحفريات، فأحيانًا كانت تمنعهم الرمال من الحركة تمامًا، ما كان يضطرهم في أحيان كثيرة للتوقف عن السير، بعد قطع مسافات تصل إلى 30 كم بعيدًا عن المدينة.
سلاحف نهرية وعظام ديناصور
بعد الذهاب على ظهر الدراجة النارية إلى مناطق العظام التي رآها فراج، اكتشف أستاذ الحفريات في البداية دلائل وجود عظام سلاحف، ومع استمرار التنقيب توصل إلى رصد عدد كبير من السلاحف النهرية الموجودة في هذه المنطقة.
ويكشف جبيلي لموقع سكاي نيوز عربية اكتشاف عظام ديناصور في هذه المنطقة، لم يعلن عنها إعلاميًا من قبل، ويجري حاليًا بحث هذه العظام مع الدكتور هشام سلام، استعدادًا للنشر العلمي عنها.
وعن الشواهد الأولى التي قادت جبيلي إلى التوصل إلى هذه الاكتشافات، يوضح أنها بدأت برصد روث مُتحفر للحفريات الفقرية، وكان هذا هو الخيط الأول، الذي تتابعت معه الاكتشافات في هذه المنطقة، التي تبعد نحو 15 كم عن الجامعة.
وبحسب الأستاذ الجامعي، فإنه خصص 10 درجات لكل طالب نظير المشاركة العملية في استخراج الحفريات، وهو ما تم بالفعل؛ حيث قضى الطلاب أيام كاملة في الموقع، استخرجوا عظام الديناصور والسلاحف البحرية، ونقلوها إلى الجامعة بعد وضعها في قمصان من الجبس.
كشف على شاطئ البحر التيثي
لم تقنع شهية الباحث المصري بالبحث عن حفريات في نطاق ضيق حول الجامعة، فكان قراره بالتحرك إلى مسافة 450 كم من مدينة الخارجة، شمالي محافظة الوادي الجديد؛ حيث توجه الدكتور جبيلي أبو الخير إلى منطقة أبو منقار، وانضم إليه من جامعة القاهرة الدكتور محمد قرني عبد الجواد، والدكتور وليد جمال كساب، بعد أن قطعوا مسافة نحو 700 كم من القاهرة.
وبحسب جبيلي فإن مناطق الخارجة والداخلة كانت قديمًا عبارة عن مستنقعات فقط؛ لكن منطقة "أبو منقار" تعتبر شاطئ البحر التيثي، وهو جد البحر المتوسط، قبل نحو 70 مليون سنة.
من جانبه يوضح الدكتور محمد قرني عبد الجواد مدرس الجيولوجيا بكلية العلوم جامعة القاهرة، أن من واقع دراستهم للجيولوجيا، فإن منطقة أبو منقار يُرجح أن يكون بها اكتشافات مهمة تعود إلى العصور القديمة.
ويضيف عبد الجواد لموقع سكاي نيوز عربية أن بعد ثلاثة أيام من الدراسة والبحث في المنطقة، عُثر على عضد السلحفاة البحرية، وتم نقلها في قميص من الجبس إلى مركز الدكتور جبيلي في مدينة الخارجة.
ويلفت مدرس الجيولوجيا، أنهم على مدار عام، عكفوا على دراسة وتوصيف هذا الجزء من السلحفاة البحرية، ثم قضوا نحو عام ونصف أيضًا من أجل السعي نحو نشر ما توصلوا إليه في ورقة علمية.
وبخصوص أهمية هذا الكشف، يقول يوضح الباحث المصري، أن هذا الكشف يبرز الشكل التشريحي للكائنات في هذا الزمن، وكذلك هذا الحجم من السلاحف البحرية، والوقوف على تطور هذا النوع حتى الوصول إلى أحجام السلاحف المتعارف عليه في أيامنا هذه.
ويختم عبد الجواد حديثه قائلًا: "من بين الأهمية أيضًا من وراء هذا الكشف، معرفة النظام الغذائي للكائنات التي تعيش في هذا الوقت، وفي العموم يمكن أن تضيف إلى النشاط السياحي بعرضها في متاحف للحفريات".
زاحف عملاق
بعد رحلة طويلة من البحث، يقول دكتور جبالي إن ظروف عمله بدأت في التحسن بعد انفصال جامعة الوادي الجديد عن جامعة أسيوط عام 2018، خاصة أن الدكتور عبد العزيز طنطاوي الذي تولى رئاسة الجامعة، هو متخصص بالأساس في الجيولوجيا، وقام بتلبية كل احتياجاتنا حتى أصبح لدينا مركز للحفريات بالجامعة.
أعقب هذا التطور، تكوين فريق علمي في الوادي الجديد معني بالحفريات، لتكون أول اكتشاف زاحف بحري عملاق هو "بليسيوزورس" (البليزوصورات)، وطوله 8 أمتار، عُثر عليه في منطقة غرب الموهوب، ويعد اكتشاف كبير جدًا، بحسب جبيلي.
يختم الدكتور جبيلي، حديثه لموقع سكاي نيوز عربية، إن عملية البحث عن الحفريات، تواجهها تحديات كبيرة منها: ظن البعض أننا ننقب عن آثار، إضافة إلى مخاطر الصحراء المعروفة، مثل هجوم الذئاب، والعواصف التي قد تهب فجأة من العدم"، موضحًا أن مهما بلغت التحديات فإن الشغف بالعلم أقوى من أن يوقفه شيء.