السودانيون في "قلب القاهرة".. حكايات تنبض بالحب
20:56 - 30 يناير 2021على مقربة من ميدان الأوبرا وسط العاصمة المصرية، حركة دؤوبة تجري، وصياح بائعين وزبائن، يتناهى إلى السمع بلهجات جنوبية، فملامح الوجوه هنا تطغى عليها ملامح أهل السودان المألوفة، في حياة كاملة يعيشها أهل الجنوب في حارة الصوفي وسط القاهرة.
وبالانعطاف يمينا من بداية شارع عبد الخالق ثروت من اتجاه ميدان الأوبرا، يجد الزائر نفسه في "حارة الصوفي" تحيطه وجوه سمراء، بينما تتواجد كل الأنشطة الحياتية المرتبطة بأهل الجنوب؛ مطاعم، ومقاهي تُقدم "الجَبَنَة" السوداني، حتى صالونات الحلاقة ومحلات الملابس تقليدية، موجودة هنا.
وفي هذه الحارة يتواجد عدد كبير من الأفارقة من جنسيات مختلفة، على رأسهم: سودانيين، وإثيوبيين، وإريتريين؛ إذ تعتبر حارة الصوفي مُلتقى يجتذب "أهل الجنوب" الموجودين في القاهرة، سواء للعمل، أو السياحة، أو من يتخذوا مصر محطة انتقال نحو الشمال.
جَبَنَة سوداني
من بعيد وقبل أن تدخل إلى المقهى، يتسلل إلى أذنيك صوت الفنان السوداني محمود عبد العزيز، معشوق أبناء الجنوب؛ حيث يخبرك صوته أنك ستعيش ملحمة غنائية جنوبية، مُشبعة بالبخور الحبشي، والقهوة السوداني، التي تُعدها سلوى.
حكايات الأفراح القادمة في درب بقلب القاهرة
وفي زاوية بمقدمة المقهى، تجلس سلوى، وهي سيدة سودانية بشوشة، لها اسم ثانٍ، هو "أبراهيت" منحته لها والدتها الإرترية، وإلى جانبها مبخرة، وبحركات سريعة ومتتابعة، تشي عن خبرة طويلة في هذه المهنة، تصنع سلوى "جَبَنَة بالدوا"، كما تجهز بسرعة لافتة شاي سوداني بالحبهان والقرنفل.
وتقول سلوى لموقع سكاي نيوز عربية إنها جاءت إلى مصر في عام 2012 وتعمل في هذا المقهى منذ عام 2014؛ وتشير إلى أن أغلب الزبائن الذين يأتون إليها سودانيين، وحبش(إثيوبيين)، وإرتريين، وعدد بسيط من المصريين.
وعندما طلبنا منها أن توضح معنى "جَبَنَة بالدوا" التي تعدها للزبائن، تقول سلوى ضاحكة كلمة "جَبَنَة" تعني القهوة السوداني، أما "بالدوا" فهو إضافة "تحويجة" مثل الحبهان، الجنزبيل أو القرنفل، مؤكدة أن تناول هذه المشروبات يفتقد روحه بدون حضور البخور أثناء إعدادها، "هذه طقوسنا وعادتنا، لازم الجَبَنَة مع البخور"
وتتابع: "هناك أنواع عديدة من البخور، مثل الجاولي، العدني، عودية، ونور حجازي، ويتم جلبها من الحبشة، وليس من السودان، حيث تتشابه عادتنا في إعداد القهوة".
لا زلنا في أحد المقاهي؛ حيث التقينا بمحمد سيد، وهو شاب مصري يعمل في مقهى يُقدم مشروبات سودانية ومصرية على السواء، ويكشف كواليس عمل المقاهي في حارة الصوفي، فيقول: "في البداية كثير من المقاهي هنا كانت تقدم المشروبات المعتادة في مصر، لكن مع وجود عدد كبير من مرتادي المنطقة من الأفارقة، أصبحت المشروبات الأساسية سودانية، وتحولت أكثر الأنشطة التجارية من مطاعم ومحلات ملابس إلى خدمة أهل الجنوب".
ويضيف الشاب المصري لموقع سكاي نيوز عربية، إن السودانيين يفضلون تناول القهوة التي تعدها السيدات، موضحًا أن هذه هي عاداتهم، لذلك تجد في كل مقهى سيدة سودانية أو إثيوبية هي المسؤولة عن تقديم المشروبات للزبائن الأفارقة.
موائد الجنوب
من المقاهي إلى موائد الجنوب العامرة في مطعم السودان المجاور؛ حيث تُقدم وجبات سودانية شهية تعكس ثقافة طعام مميزة بالبهارات، لكن اللافت عندما دخلنا إلى المطعم، وجدنا شاب مصري، يدير حوارًا بلهجة سودانية أصيلة، ويروي محمد شحاتة، مدير المطعم قصته مع الطعام السوداني في مصر؛ حيث أن مسقط رأسه محافظة المنيا جنوبي مصر.
ويقول شحاتة لموقع سكاي نيوز عربية، إن عدد كبير من أفراد عائلته عملوا في مطعم الخرطوم، وهو أول مطعم سوداني اُفتتح في القاهرة منتصف الثمانينيات، لافتًا إلى أنه بدأ العمل في هذا المجال بداية من عام 2005، ولا يمكنك أن تميز بين لهجة محمد شحاتة وأي زائر سوداني، فهو يجيد اللهجة السودانية، إلى الدرجة التي تجعل بعض السودانيين يختلفوا على جنسيته، على حد قوله.
ويوضح الشاب المصري، أشهر الأطباق السودانية، وعلى رأسها طبق "الشية"، الذي يتكون من قطع لحم صغيرة مكعبة الشكل، ويضاف إليها التوابل السودانية المعروفة، ويشير إلى أن سيد المائدة هو "الكسرى"، وهو العيش السوداني، ويؤكل معه "الويكا"، وهي عبارة عن "الباميا" ولها أنواع عدة، وهناك الفاصوليا أيضًا.
ويضيف: "من الأطباق الرئيسية الكمونية، وفي شهر رمضان المعظم، يتسيد طبق العصيدة المائدة السودانية"، ويلفت إلى أن البهارات أكثر ما يميز الطعام السوداني، وأشهرها: الحبهان، القرفة الناعمة والخشنة، والشمار (الكمون)، الفلفل الأسود، والكزبرة.
وبحسب مدير المطعم، فأغلب العاملين معه إريتريين، لافتًا إلى أن هذا المطعم تم افتتاحه منذ عام 2007، ويملكه مصري، وعن جنسيات الزائرين، يقول شحاتة إن أغلبهم من السودان وجنوب السودان، ويأتي أيضًا إرتريين، وإثيوبيين، وأحيانًا تشاديين.
الحلم بأضواء القاهرة
عبد الرحمن الطريف، شاب سوداني، يعيش في القاهرة، ويعمل في مهنة الحلاقة بحارة الصوفي، لكن حلمه في القاهرة يبعد بمسافات طويلة عن هذه المهنة، فهو فنان، وعضو بنقابة المهن الموسيقية في السودان، ويحلم بالأضواء والنجاح في مجال الفن.
ويروي عبد الرحمن، قصته لموقع سكاي نيوز عربية، فيقول إنه جاء للقاهرة قبل تسع سنوات، بدافع محبته لمصر، كما أراد أن يرى الدنيا من خلالها، لافتًا إلى أنه لا يستطيع البقاء في السودان أكثر من شهرين، ثم يعود بعدها مجددا إلى مصر.
وعن طبيعة عمله يوضح الشاب السوداني أنه يعمل في مهنة الحلاقة أثناء النهار، لكنه مطرب بالأساس وعضو نقابة المهن الموسيقية والتمثيلية بالسودان، وبعد أن يقضي نهاره في مهنة الحلاقة، يعمل خلال الليل في إحياء الحفلات السودانية في القاهرة.
البحث عن حياة جديدة
إلى جانب عبد الرحمن، هناك عشرات الوجوه السمراء الباسمة التي يصادفها الزائر أثناء جولته في حارة الصوفي، من بينهم حسب الدائم، الذي جاء إلى القاهرة في رحلة علاج قبل ثلاث أعوام، واستقر بعدها في القاهرة.
ويقول حسب الدائم ابن "أم درمان" لموقع سكاي نيوز عربية، إن السودان كان يمر بمرحلة صعبة، وفرص العمل قليلة، موضحًا أنه جاء في رحلة علاج عام 2018، ثم وجد أن الحياة في مصر جيدة، وبها متسع للعمل، خاصة هنا في حارة الصوفي، فقرر الاستقرار حيث يجتمع أبناء الجنوب.
عبد الرحمن التوم، شاب سوداني آخر جاء إلى مصر منذ ثماني سنوات، يناديه رفاقه بـ "ابن شبرا"، وهو التعبير الذي يطلقه المصريين على "أولاد البلد"؛ نظرًا للإلمام الواسع بتفاصيل الحياة اليومية في القاهرة؛ إذ استقر أول الأمر في منطقة شبرا الخيمة شمالي العاصمة المصرية.
ويقول التوم لموقع سكاي نيوز عربية، إنه قضى نحو عام ونصف في منطقة شبرا الخيمة، ثم استقر في مدينة الغردقة ثلاث سنوات، لكنه شعر بالغربة هناك، نظرًا لأنه كان السوداني الوحيد في محل سكنه بالمدينة السياحية، ثم استقر في الأخير في بالقاهرة، "هنا الأخوة والأهل، حتى أنني ألتقي ناس منطقتنا في السودان هنا في وسط البلد".
لم تنته حكايات أهل الجنوب، بلقاء موقع سكاي نيوز عربية مواطنين سودانيين، فكثير من الحكايات لا تزال مخبئة في صدور أبناء جنسيات إفريقية أخرى، يرفضون الحديث للإعلام، خاصة الإرتريين والإثيوبيين،
وبعد التقصّي، اكتشفنا أن لديهم محاذير اجتماعية كثيرة، من بينها؛ الخشية من أن يراهم ذويهم يعملون في مهن شاقة في بلد أجنبي، بحسب ما عبرت سيدة إثيوبية لسكاي نيوز عربية، ورفضت التحدث أو حتى الظهور في صورة، إضافة إلى أن بعضهم لديه مشاكل في بلده الأم ويقيم في القاهرة بشكل مؤقت، انتظارًا لفرصة تمنحه مفتاح الهجرة إلى الشمال.