لبنان 2020.. حصاد "عام الانهيار"
21:03 - 31 ديسمبر 2020في أول أيام العام الجاري، وبينما كان العالم مشغولاً بقضاياه السياسية والاقتصادية، تناقلت وسائل الإعلام خبراً عن عملية هروب غامضة قام بها الرئيس السابق لتحالف صناعة السيارات العملاق رينو نيسان ميتسوبيشي كارلوس غصن من إقامته الجبرية في اليابان، حيث كان متهماً بارتكاب مخالفات مالية كُبرى، إلى لبنان.
حادثة فرار غصن إلى لبنان كانت ذات دلالة واضحة على أحوال لبنان وهوية وموقع ودور نظامه السياسي الحاكم، فقد صارت هذه الدولة كياناً خارجاً عما كان عليه من قيمٍ سياسية واقتصادية وثقافية خاصة كانت تميزه، كدولة تمتاز بالديمقراطية والحريات العام والاقتصادي الحُر وإنتاج المعارف والمبادرات الثقافية، إلى بيئة خصبة جاذبة للخارجين عن شبكات القانون الدولي.
أربعة وقائع متزامنة في أوائل هذا العام، دلت مجتمعة على تموضع وهوية لبنان الجديدة هذه، التي شكلت سقوطه الحُر.
حكومة متأزمة
فقد تم تكليف حسان دياب لتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، بعدما قدم رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري استقالة حكومته في أواخر العام، تحت ضغط انتفاضة شعبية عارمة اندلعت في شهر أكتوبر "تشرين أول" من العام المنصرم.
كان دياب من خارج النادي السياسي اللبناني تماماً، ينتمي لطبقة الأساتذة الجامعيين التكنوقراط، دون أية نزعة سياسية أو خيار اقتصادي، أقرب ما يكون لمجرد موظف حكومي طيّع للجهات السياسية التي أتت به، تحالف حزب الله مع التيار الوطني الحُر، الذي ينتمي إليه الرئيس ميشيل عون.
مثل ذلك الخيار لم يكن تهميشاً للتمثيل السياسي الرئيسي لأبناء الطائفة السُنية اللبنانية فحسب، ومعهم قُرابة نصف المسيحيين اللبنانيين، بل كان استهتاراً تاماً بمطالب وتوجهات الانتفاضة اللبنانية، عبر الإصرار على شخص وحكومة سياسية هي بالضبط التي انتفض عشرات الآلاف من الشُبان اللبنانيين ضدها. الذين أعادوا الانتفاض بعد مرور أسبوعين فقط من بداية العام، على وقع الصدمة من تكليف حسان دياب وتشكيله للحكومة اللبنانية الجديدة، التي ما كانت تحمل أي مشروع إصلاحي، وموالية لأكثر القوى السياسية سلطوية وهيمنة في البلاد. تجدد الانتفاضة واجهتها الحكومة الجديدة بقسوة تامة، حتى أن الصليب الأحمر اللبناني قال في تقريره حول أحداث "يوم الغضب" الذي نفذه المنتفضون في 14 فبراير "شباط" بأنه: "تم نقل 45 جريحاً إلى مستشفيات المنطقة، فيما تم إسعاف 238 مصابا في المكان".
اعتداء حزب الله على السيادة
مستوى الانهيار اللبناني الثالث أوائل هذا العام، تمثل بتصريحات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي توعد الولايات المتحدة بالانتقام من مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سُليماني، إذ قال نصر الله في الأسبوع الأول من العام في حفل تأبيني في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية بيروت: "القصاص العادل هو من الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، القواعد العسكرية الأميركية، البوارج العسكرية الأميركية، كل ضابط وجندي في المنطقة"، مؤكداً أن سليماني ليس شأناً إيرانياً بحتاً، بل شخصياً وحدثاً يخص كل محور المقاومة.
بتصريحاته تلك، فأن نصر الله كان يُفرغ لبنان تماماً من كونه دولة ذات حكومة ورئيس، وتالياً سيادة، وحلولها إلى مجرد كيان عسكري وأمني يتبع المصالح والخيارات الإيرانية في المنطقة. هذا الأمر الذي انعكس طوال العام على تعامل القوى الدولية والإقليمية مع لبنان وأزماته الداخلية، السياسية والاقتصادية منها بالذات.
انهيار الليرة
الحالة الرابعة المؤشرة على الانهيار العام تمثلت في تداعي قيمة الليرة اللبنانية اعتباراً من أوائل شهر أبريل "نيسان"، بسبب فشل التغطية الدولية لحزمة المساعدات والقروض الدولية التي كان من المفترض أن تحصل عليها الحكومة اللبنانية لإعادة تشييد دورة التنمية الاقتصادية في البلاد.
انخفضت قيمة الليرة اللبنانية إلى ما دون ثُلث قيمتها التي كانت أوائل العام، ليبغ قيمة الدولار الواحد حدود 5000 ليرة لبنانية في أوائل شهر مايو "أيار" من هذا العام، بعدما كان الدولار الواحد يساوي 1500 ليرة لبنانية أوائل العام. انهيار قيمة الليرة دفع المصارف اللبنانية إلى إيقاف تسلم الودائع المالية للمودعين، إلا بشروط صعبة للغاية، حتى للمرضى والطلبة، الامر الذي أحدث أزمة اجتماعية واقتصادية استثنائية في البلاد منذ أوائل التسعينات بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية. الأمر الذي دفع الكثير من الطبقات الاجتماعية إلى حافة الجوع، بسبب الارتفاع الهائل في مستويات التضخم. الأمر الآخر تمثل في تراجع القدرات المالية للحكومة اللبنانية على تغطية الخدمات الأولية، مثل شراء ودعم المشتقات النفطية اللازمة لتوليد الكهرباء وجمع القمامة وشراء مادة القمح، مما يُنذر بتحطم منظومة الخدمات العامة.
كارثة المرفأ
شكل تفجير مرفأ بيروت في الرابع من شهر أغسطس "آب" تعبيراً مباشر عن كل حالات الانهيار تلك. فقد اطاح انفجار أكثر من 500 طن من نترات الأمونيوم كانت مخزنة/محتجزة في المرفأ بقرابة ثُلث مدينة بيروت، موقعة أكثر من ثلاثمائة ضحية وأكثر من عشرة آلاف جريح.
انفجار المرفأ الكارثي، وما تالها من تحقيقات لم تتوصل إلى اية نتيجة، بما في ذلك التعرف على الكيفية وصلت وخُزنت فيه هذه الكمية من المواد في المرفأ الذي يقع في قلب المدينة، كشف هذا التكامل بين انهيار أجهزة الحكومة/الدولة التي لم تكن تملك أي مشروع سياسي أو اقتصادية إصلاحي، مع سلطة حزبية سياسية مهيمنة على الحياة السياسية والعامة في البلاد، هي تحالف حزب الله مع التيار الوطني الحرب، إلى جانب انهيار اقتصادي تام.
المبادرات الدولية تجاه لبنان عقب حادثة المرفأ، كشفت مدى صعوبة سعي القوى الدولية لتغطية الفشل الداخلي الذي يعيشه لبنان.
زيارة ماكرون
فقد وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاصمة اللبنانية بيروت بعدين يومين فقط من حادثة الانفجار في السادس من شهر أغسطس "آب"، حاملاً مشروعاً للمساعدات الاقتصادية والسياسية للبنان، شريطة تشكيل حكومة لبنانية جديدة، مؤلفة من شخصيات مستقلة، قادرة على تطبيق حزمة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والسياسية في البلاد، تستطيع أن تكافح عمليات الفساد والنهب العام في البلاد، إلى جانب منح القضاء وباقي الهيئات والمؤسسات المستقلة المزيد من السلطات لتقوم بواجباتها خارج هيمنة القوى السياسية.
بعد ثلاثة أسابيع من المفاوضات المضنية بين القوى السياسية اللبنانية، تم تكليف السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب بمهمة تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، بتزكية من رؤساء الوزراء اللبنانيين السابقين. الرئيس المكلف تعهد بتشكيل حكومة لبنانية من الكفاءات والاختصاصيين، القادرين على القيام بالمهمة الرئيسية للحكومة، حسب التعهدات التي قدمتها القوى السياسية الرئيسية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان قد عاد مرة أخرى إلى لبنان، بعد أقل من يومين من تكليف أديب بتشكيل الحكومة.
قُرابة شهر كامل من المداولات المضنية بشأن تشكيلة الحكومة وخططها التنفيذية، أعتذر الرئيس المكلف في محصلتها عن تشكيل الحكومة، قائلاً في خطاب متلفز بأن الكتل السياسية لم تلبِ شروطه في عدم تسييس التشكيل، وأن المهام المتوقعة للحكومة لا يمكن تلبيتها في حال كانت هذه الحكومة ملبية لطلبات القوى السياسية. لكن التفسيرات المباشرة لأسباب الفشل دلت على الطلبات التي قدمتها القوى الرئيسية الحاكمة في البلاد، الثنائي الشيعي المتمثل في حزب الله وحركة أمل، والتي طالبت بإبقاء وزارة المالية اللبنانية من حصتها الحكومية، وتالياً التحكم التام بالمفاصل الحيوية منها، كان العائق أمام تشكيل الحكومة.
نقطة البداية
بعد شهرين آخرين من المداولات بين القوى السياسية اللبنانية، وبمتابعة فرنسية حثيثة، عادت هذه القوى وتوافقت على تكليف رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري لتشكيل الحكومة اللبنانية في الثالث والعشرين من شهر أكتوبر "تشرين أول" من هذا العام.
تكليف الحريري كان يعني العودة إلى نقطة البداية، حيث أن الحريري وبتوافق مع القوى السياسية الحاكمة هو الذي قامت ضده ثورة شعبية عارمة أواخر العام المنصرم، وتالياً أثبتت القوى الحاكمة عدم امتلاكها لأية أدوات أو فرص يمكن أن تقدمها للشارع اللبناني، وأن الوقائع اللبنانية هي أقرب ما تكون لمصير محتوم، وأن جميع الاحداث المريعة التي مرت بها البلاد، بما في ذلك انهيار العملة والاقتصاد الوطني وتدمير ثلث عاصمة البلاد وعشرات آلاف الضحايا والجرحى، لا يمكن لها أن تُقلق وتغير من أدوات وسلوك القوى السياسية الحاكمة، الرئيسية منها بالذات.
لكن الدلالة الأكثر تعبيراً كانت بعدم قدرة الحريري نفسه على تشكيل الحكومة من جديد، ولو بعد أكثر من شهرين من التكليف، وبالرغم كل الضغوط الدولية والداخلية، فقط لأنه يملك بعض السياسيات الساعية لتغيير المشهد الداخلي نسبياً للغاية.
مر لبنان طوال تاريخه المعاصر بالكثير من الأزمات الداخلية، التي وصلت بعضها إلى مستوى الحروب الأهلية المديدة، التي تم تجاوزها بسبب حيوية المجتمع وطبيعة النظام السياسي. لكن أحداث العام الجاري أثبتت تحولاً جوهرياً في كلا المستويين. فالنظام الحاكم أكثر صلابة من أية ضغوط كانت، والمجتمع اللبناني يتغير بعمق، بسبب الهجرة التي تطال كل طبقات الحيوية.