تركيا في القارة السمراء.. أطماع تفوق الإمكانيات
00:48 - 13 سبتمبر 2020في خطوة أثارت الجدل لكونها الزيارة الأولى من نوعها إلى باماكو عقب الانقلاب العسكري، عمد وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، إلى أن تكون مالي أولى محطات جولته الإفريقية، التي أخذته أيضا إلى كل من غينيا بيساو والسنغال طوال اليومين الماضيين.
وزارة الخارجية التركية قالت في بيان رسمي، إن تشاووش أوغلو "يعتزم خلال زيارته إلى مالي إجراء مباحثات حول عملية الانتقال السياسي والعلاقات الثنائية بين البلدين، مع أعضاء اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب (الانقلابيين)، وممثلين من الأمم المتحدة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، والاتحاد الإفريقي.
لكن متابعين للسياسة الخارجية التركية شككوا في ذلك، فتشاووش أوغلو هو أول مسؤول دولي يصل إلى العاصمة المالية عقب الانقلاب العسكري الذي جرى في ذلك البلد ضد السلطة المنتخبة، قبل أقل من أسبوعين.
ولم تندد تركيا بالانقلاب، بل أصدرت الخارجية التركية بيانا بروتوكوليا وقتئذ، عبرت فيه عن "بالغ القلق والحزن"، بينما تشير الأدلة الأولى إلى وجود وشائج بين الانقلابيين وأنقرة، ولو على المستوى الأيديولوجي والرمزي على الأقل.
وقد أظهر الانقلابيون شكلا من التودد إلى الإسلام السياسي، ومناهضة للنفوذ الفرنسي، الذي بقي طوال السنوات الماضية يساند دولة مالي وسلطتها الشرعية عسكريا واقتصاديا، للقضاء على المجموعات المتطرفة شمالي البلاد.
وجاءت زيارة الوزير التركي عقب جولة إفريقية أخرى كان قد قام بها قبل أقل من شهرين، زار خلالها توغو وغينيا الاستوائية والنيجر، بعد مرحلة من التدخلات في الشؤون العربية/الإفريقية، بالذات في ليبيا وتونس، وكذلك بعد أن وسعت تركيا من شكل نشاطها الدبلوماسي في القارة الإفريقية، حيث زادت أنقرة أعداد سفاراتها من 12 إلى 42 سفارة في مجمل دول القارة السمراء.
كل تلك الإشارات توحي بأن ثمة توجه استراتيجي تركي للانخراط في القارة الإفريقية.
أكبر من حجمها
السؤال الذي بقيت مراكز الاختصاص الإفريقية تطرحه طوال الأيام الماضية، كان يتعلق بمستوى التناسب بين هذه التطلعات الاستراتيجية التركية للعب دور في إفريقيا، وبين القدرات والطاقات الذاتية التي تملكها تركيا، التي قد تؤهلها لممارسة تلك الفاعلية في القارة الإفريقية!.
وتتعلق كل تلك الأسئلة بالإمكانيات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية لتركيا، ومدى موازاتها لإمكانيات الدول الفاعلة في إفريقيا في تلك المجالات.
وكتب الكاتب والباحث التركي أردال سمسك، تقريرا توضيحيا مطولا نشره موقع “Haber365” التركي، أوضح فيه طبيعة المساحة الإفريقية التي تندفع إليها تركيا، المتمثلة في وسط وغرب إفريقيا.
واعتبر أنها بمثابة "العالم الفرنسي لإفريقيا"، مشيرا إلى أن "العالم النفسي والسياسي بالنسبة للأغلبية المطلقة لسكان ونخب تلك البلدان هو فرنسا، التي هي بالنسبة لهم القوة العظمى في العالم".
كما أشار إلى أن بعض الاتفاقيات وأشكال التعاون التي تتبادلها تركيا مع واحدة أو أخرى من تلك البلدان، لا يعني بأن مزاحمة تركية لفرنسا في مناطقها الإفريقية قد تحققت، فالعلاقات الوجدانية والاقتصادية واللغوية، وحتى الاجتماعية، لفرنسا مع تلك المنطقة، يصعب تفكيكها حتى بالنسبة لفاعل مثل الصين، فكيف بدولة مثل تركيا.
استحالة النجاح
معظم الدلائل تشير إلى شبه استحالة تحقيق التطلعات التركية، فالدول الإفريقية التي تنوي تركيا الانخراط معها، تحتاج أولا إلى أشكال متنوعة من الدعم الاقتصادي، وهو ما لا تستطيع تركيا تقديمه قط.
فالمؤشرات العالمية تقول إن تركيا تحتل المرتبة 19 في قائمة الدول من حيث الناتج المحلي، وأن مجموع ما تنتجه تركيا يتجاوز قليلا ما تنتجه دولة صغيرة مثل تايوان، بالإضافة إلى أن الصادرات التركية تحتل المرتبة 27 عالميا، أي أقل من دول إقليمية مثل السويد أو بولندا.
فوق ذلك، فإن تركيا لا تملك صندوقا سياديا للاستثمارات، مثل مختلف الدول القوية اقتصاديا، التي تستثمر عادة صناديقها في الدول النامية، وتخلق وئاما سياسيا إلى جانب فاعليتها الاقتصادية في تلك الدول.
هذه الأرقام الاقتصادية التركية المتواضعة للغاية، مقارنة بما تملكه الدول المتنافسة على إفريقيا، بالذات الصين ودول الاتحاد الأوربي، لا يمكن لها أن تخلق لتركيا أية فاعلية، خصوصا وأنها تعاني داخليا من أزمة مالية واقتصادية خانقة، خسرت الليرة التركية من خلالها نصف قيمتها خلال عم واحد فقط.
الصحفي المالي فاجيومبا كانوتا كتب تقريرا نشره موقع “Dunyabulteni”، أشار فيه إلى استحالة أن يكون لتركيا قدرة في التأثير على المنظومات العسكرية في هذه المنطقة الإفريقية.
فالمجموعات العسكرية الإفريقية ذات مصالح وتداخل مع الدول الكبرى، مثل فرنسا والولايات المتحدة وإلى حد ما مع روسيا، مشيرا إلى أن مجموع أشكال التعاون والمساعدات العسكرية التركية للدول الإفريقية تكاد لا تذكر مقارنة بالدول السابقةً، وأن نخب الجيوش الإفريقية لا يمكن لها أن تتخلى عن مصالحها مع تلك الدول.
وأضاف الكاتب أن الديناميكيات الداخلية هي التي كانت فاعلا أوليا ومباشرا للانقلاب الأخير في دولة مالي مثلا، وأن تركيا سعت لأن توحي بشكل غير مباشر بأن لها علاقة وطيدة مع الانقلابيين، لترتيبات تتعلق بإمكانية دعم ورعاية بعض الجماعات السياسية مستقبلا، مثلما يجري في ليبيا.
موقع "Tasam" التركي أشار في تقرير استقصائي تفصيلي، إلى أشكال التعاون الثقافي والمعرفي الذي تقدمه تركيا لمختلف دول القارة الإفريقية.
وأحصى كاتب التقرير توغرول يلماز مجموع المنح الدراسية التركية لكل الدول الإفريقية طوال قرابة ربع قرن (1991-2014)، موضحا أنها كانت فقط 4380 منحة، وأن الطلبة الأفارقة في الجامعات التركية راهنا هم 5437 طالبا فقط، إلى جانب 116 محاضرا أو أستاذا جامعيا إفريقيا فقط في الجامعات التركية.
كذلك يشير الباحث إلى أعداد المتدربين الدبلوماسيين الأفارقة في تركيا، الذين لم يتجاوزا 200 متدرب منذ عام 1992، بينما وصل عدد المتدربين العسكريين الأفارقة في تركيا إلى 2200 عسكري.
مجموع تلك الأرقام الواردة في تقرير الموقع التركي، لا تقارن بمستويات التعاون الثقافي والمعرفي والتدريبي بين واحدة من هذه الدول الأفريقية فقط وأية دولة من المنظومة الأوربية، وخلال عام واحد فقط.
وقبل أسبوعين فحسب، أصدرت مجموعة من الدبلوماسيين الأتراك المخضرمين بيانا، أشاروا فيه إلى أن الخارجية التركية صفت كامل النخبة الدبلوماسية التقليدية، وأن السياسات الخارجية التركية الراهنة ترسم من قبل بعض المقربين من زعامة حزب العدالة والتنمية فحسب، وأن هؤلاء أقصر نظرا من إمكانية تحديد وتوفيق مصالح تركيا مع قدراتها.. وفي إفريقيا مثال تجريبي عن ذلك.