المتوسط وأزمات أخرى.. تفاصيل "كسر العظام" بين تركيا وفرنسا
10:49 - 06 سبتمبر 2020في تجاوز لكل اللغة الدبلوماسية المعتادة، وصف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه شخص "جن جنونه"، وهو تصريح عكس عمق الخلاف بين البلدين في خضم أزمة مشتعلة في شرق البحر المتوسط.
التصريحات التي أطلقها الوزير التركي يوم الجمعة ظهرت وكأنها رد فعل مباشر من جانب تركيا على الخطوات والتوجهات الإقليمية لفرنسا خلال الآونة الأخيرة، التي بدت كلها مناهضة لتركيا وسياساتها في المنطقة.
الفاعلية الفرنسية ظهرت على 4 مستويات رئيسية، في كل واحدة منها ثمة ما هو متباين مع التوجهات التركية، فقد مارست فرنسا كل طاقتها الذاتية لوقف لإطلاق النار في ليبيا، وهو ما نجحت فيه باريس، وظهر رئيس حكومة الوفاق فائز السراج الحليف الاستراتيجي لتركيا وكأنه وافق على المساعي الأوربية من دون موافقة كاملة من تركيا.
كذلك فأن فرنسا أظهرت أعلى درجات التضامن مع اليونان في التوتر الحديث الذي نشب بينها وبين تركيا، في ملف حقوق التنقيب عن الغاز بمنطقة شرق المتوسط، حتى إنها ضغطت لإحداث موقف أوروبي يهدد تركيا بفرض العقوبات، ما لم تتجاوب مع التحذيرات اليونانية الأوربية.
على مستوى أقرب جغرافيًا لتركيا، لعبت فرنسا دورا محوريا في إعادة ضبط الحياة السياسية والأمنية في لبنان، ورعت مشروعا توافقيا بين القوى السياسية، وبذلك ظهرت باريس وكأنها قطعت الطريق أمام التوجهات التركية لمد الفاعلية والنفوذ إلى البلد الجريح مستفيدة من مظلومية بعض طوائفه، وهو أمر كان نائب الرئيس التركي فؤاد أوكتاي قد أعلنه خلال زيارته لبيروت عقب انفجار مرفأ المدينة في أغسطس الماضي.
لكن الحساسية التركية وصلت لذروتها بعد التصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي أثناء زيارته لبغداد، الأربعاء، التي أعلن فيها عقب اجتماع مع رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني عن رفض فرنسا التدخلات الخارجية في الشؤون والأراضي العراقية، معتبرا أن العراق دولة ذات سيادة، وهي تصريحات قال المراقبون إنها تقصد العمليات العسكرية التركية في إقليم كردستان العراق بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني.
مجمل تلك الملفات، ومستويات التباين بين مواقف الطرفين، يُستدل منها على أنه ثمة ما يشبه الصراع الصفري بين الطرفين، سيشكل واحدا من أهم ديناميكيات التوازنات في المنطقة خلال الفترة المنظورة، وربما تكون دافعا لمزيد من الاستقطاب الإقليمي، التي لن تكون لصالح تركيا بعمومها، فالمتضامنون مع الموقف التركي لم يتجاوزوا الحلفاء التقليديين لها، قطر وحركة حماس في قطاع غزة.
صحيفة "ماريان ديل" بنسختها التركية، حللت الأمر في تقرير مطول عن التغيرات التي طرأت على علاقة الطرفين طوال الشهور الماضية، ففرنسا لم تكن كثيرة التدخل في شؤون بلدان شرق المتوسط، لكن الموقف والسلوكيات التركية من سوريا، سواء عبر ملف اللاجئين أو الحروب التي خاضتها أنقرة في مواجهة القوى العسكرية المحاربة للإرهاب، دفعت فرنسا لأن تكون من أشد المدافعين عن بقاء القوات الفرنسية والأميركية في منطقة شرق الفرات إلى أن يتحقق التوافق السياسي السوري النهائي، وهو أمر رأته تركيا مساسا بأمنها القومي.
وأضافت الصحيفة أن الموقف الفرنسي في شهر مارس 2019 بالبقاء عسكريا في منطقة شرق الفرات، حينما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من شمال شرق سوريا، وفي مرحلة لاحقة أجبرت الولايات المتحدة على التراجع، ذلك دفع تركيا لأن تنال من فرنسا في المناطق الإفريقية، بالذات تلك التي كانت ضمن مناطق نفوذ باريس، مثل ليبيا وتونس ومالي، وهو ما أثار حنق فرنسا من كون التدخل التركي يثير النعرات الدينية والعنف الأهلي في تلك المناطق، وبالتالي يخلق المزيد من القلاقل لفرنسا.
الكاتب والباحث التركي عرفان كايا أولجر، عرض في بحث تحليلي مطول في موقع "كرييت" التركي أن التوجهات الفرنسية لا تذهب لأن تكون مجرد مناكفة بين دولة وأخرى أو رئيس وآخر، كما اعتادت سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع عدد من الدول الأوروبية لخلق أزمات قابلة للتطويق.
بل إن فرنسا حسب أولجر، ذاهبة لتشكيل أكبر منصة من الحلفاء الإقليميين لمناهضة تركيا، فأي توافق وتنسيق سياسي بين إسرائيل ومصر والإدارة اليونانية لقبرص، إلى جانب اليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، كان سيكون مستحيلا تحققه بسبب الحساسيات السياسية بين هذه القوى، لولا الضغوط الفرنسية وإستراتيجيتها بعيدة المدى.
هذه القوى السياسية التي يمكن لها أن تشكل ما يشبه "تجمع أوبك" الخاص بالغاز حسب أولجر، فإنها قادرة على إعادة تركيا إلى حدودها البحرية الطبيعية، وهو ما يعني حرمان تركيا من كل خيرات شرق المتوسط، وبالتالي حرمانها منطقيا من كميات كبيرة من الموارد المالية، التي قد تنفقها على عشرات الآلاف من استطالاتها السياسية والعسكرية في دول نفوذها، وهو ما تسعى إليه فرنسا إستراتيجيا.
مراقبون متابعون لهذه "المواجهة" الفرنسية التركية، أجمعوا أن التحركات الفرنسية الأخيرة جاءت تحت تأثير 3 فاعليات في المشهد الشرق أوسطي.
ففرنسا تستشعر أن الولايات المتحدة ذاهبة إلى المزيد من تخفيف نفوذها وحضورها في الشرق الأوسط، وأن ملء الفراغ سيكون لصالح روسيا وتركيا وإيران، وأن جميع هذه الأطراف، وبالذات تركيا لأنها الأقرب، ستضر بالأمن القومي الأوروبي ما لم تتحرك قوى القارة لأخذ المكانة والدور المناسبين.
إلى جانب ذلك، فأن فرنسا ترى في مجمل التحركات التركية، سواء في مواجهة اليونان أو عبر تسعير الحرب الليبية، تقصد خلق مناطق نفوذ لابتزاز الاتحاد الأوربي مستقبلا خصوصا ماليا، وأن المواجهة الأكثر فاعلية لكبح ذلك هو ردم المحاولات التركية في مهدها وعدم السماح لها بالتحول إلى حالات مستعصية ودائمة.
أخيرا، فإن فرنسا تلقت تفاهما أميركيا روسيا ألمانيا مشتركا، يشجعها على خلق ورعاية تحالفات إقليمية قادرة على فهم أبعاد المشروع التركي، فباريس بحكم خبرتها التاريخية وشبكة علاقاتها التقليدية عبر المتوسط تبدو الأكثر أهلية لكبح التمدد التركي في المنطقة.