كيسنجر بالصين.. هل يصلح "الثعلب الأميركي" ما أفسده الدهر؟
16:29 - 24 نوفمبر 2019يوشك وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، على إتمام عامه المئة، لكن "ثعلب السياسة" في الولايات المتحدة، لا يستكين إلى تقاعد مريح، بل حرص، مؤخرا، على أن يحضر منتدى اقتصاديا في العاصمة الصينية، وخاض مجددا في شؤون الدبلوماسية، معيدا إلى الأذهان ما قام به قبل عقود لأجل إعادة العلاقة بين واشنطن وبكين.
وكتب كيسنجر مذكراته على متن رحلات مكوكية بين واشنطن وبكين في العام 1971، حتى يعيد العلاقات السياسية بين بلاده والصين الشيوعية التي كانت خارجة للتو من مرحلة ماوتسي تونغ، وتشوان لاي، عبر ما عرف بدبلوماسية " البينغ بونغ".
ولم تتأزم العلاقات الصينية الأميركية، خلال السنوات الأخيرة، لكنها تعرضت لرياح تكاد تتحول إلى أعاصير على عهد الرئيس دونالد ترامب؛ الرجل الذي أبدى مواقف متشددة إزاء بكين، بسبب العجز التجاري للولايات المتحدة أمام الصين، قائلا إن الصين تهاجم أميركا بسلاح ردع غير تقليدي.
وعرفت القوى العظمى طويلا فكر الردع النووي، أي ذاك القائم على توازن الرؤوس النووية والصواريخ والطائرات الحاملة لها، بمعنى أن الواحد يحسب للآخر حسابات تتعلق بمدى طول وعمق وعدد ما في ترسانته الصاروخية من أسلحة فتاكة يتوجب عليه أن يأخذها في الحسبان قبل الإقدام على أي تهور استراتيجي قد يكلفه غاليا لاحقا.
لكن الصين أدركت في واقع الأمر، طرحا آخر وهو " توازن الردع النقدي "، بمعنى قوتها وقدرتها المالية، تلك التي تعاظمت في العقود الثلاثة الأخيرة وتبشر بأنها سوف تضحى سيدة التجارة العالمية، ربما مع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بدون منازع، متقدمة واشنطن بخطوات كبيرة.
وتمضي الصين وراء رؤى "كونفوشيوسية" تحكم حاضرها، ومنها عدم السعي إلى المواجهة المباشرة مع الخصم، وتقبل أن الوجود عبارة عن "كل أنطولوجي"، يمكن فيه تحريك مواقع المنافسة، لكن من غير عداء واضح، وبهذا، تبني إمبراطوريتها بهدوء وتؤدة ومن غير ضجيج أو حملات عسكرية، بل تستخدم فوائضها النقدية من أجل كسب مواقع ومواضع جديدة حول العالم، عبر قروضها السخية غير المرتبطة بحقوق الإنسان أو بقيم الديمقراطية، وهي أمور تجيد واشنطن الحديث عنها.
ويصيح ترامب، صباح مساء، منددا بـ"الغش" الذي تمارسه الصين من وجهة نظره، ويشن حربا تجارية شعواء، ثم يفرض التعريفات الجمركية التي تكبد الصين خسائر فادحة، ويكاد المشهد يتحول من حرب تجارية إلى حرب باردة تعقبها مواجهات ساخنة.
يظهر كيسنجر، من وراء الستار، مرة جديدة، محاولا إنقاذ الموقف عبر المؤتمر الذي نظمته وكالة "بلومبرغ"، خلال الأيام القليلة الماضية في بكين، وأعرب هناك عن قلقه حيال المواجهة القائمة بين بكين وواشنطن تجاريا.
وحذر كيسنجر من مواجهة ما زال من الممكن تفاديها، بين واشنطن وبكين، ونبه إلى أن المواجهة بينهما تقترب من الحرب الباردة، بل ذهب في مخاوفه إلى حد أبعد، فلم يستبعد أن يصل الصراع مستوى أعقد من الحرب العالمية الأولى.
ويبدو الصراع التجاري في طريقه إلى اتجاه مخيف، لأن الحرب العالمية الأولى انطلقت من جراء حادثة فردية في تقدير كيسنجر، أما ما بين الصين وأميركا فهو ملفات ساخنة سياسيا، ومواجهات قطبية تغلي ويمكنها أن تنفجر مخلفة حربا عالمية جديدة ثالثة، ويضيف أنه من الوارد جدا أن تستخدم فيها الأسلحة النووية، وإذا واصل الطرفان النظر الى كل قضية في العالم على أنها نزاع بينهما، فقد يكون ذلك خطيرا على البشرية.
وما يبدو مؤكدا، في الواقع، هو أن الولايات المتحدة والصين، ركيزتان لا يمكن الاستغناء عنهما في أي نظام عالمي، وهذان البلدان اتخذا موقفا ملتبسا من النظام الحالي، حتى وإن كانتا تؤكدان التزامهما به، وتتحفظان على جوانب من تصميمه.
وبخلاف ما هو مفترض، بالنظر إلى قوة الصين، لا نجد أن هذا البلد الآسيوي اضطلع بالدور "المطلوب" منه في نظام القرن الحادي والعشرين، أي أنه بدا زاهدا في هذا الجانب.
وعلى الضفة الأخرى، يبدو أن الولايات المتحدة، لم يسبق لها أيضا، أن خاضت تجربة التفاعل على قاعدة مستدامة، مع بلد على قدر مماثل من الحجم والنفوذ والاقتصاد، ولكنه يتبنى نظام مختلفا، على المستوى الداخلي، أي مثل الصين.
تبديد المخاوف
ولم تكن مشاركة كيسنجر، في مؤتمر "بلومبرغ" الأخير في بكين، أمرا عشوائيا بل رسالة أميركية، في وقت حساس، يهم الرئيس ترامب بشكل خاص قبل أي مسؤول آخر، لا سيما وأنه يعتمد على كيسنجر اعتمادا مباشرا، في الكثير من الملفات الخارجية.
وبات الأميركيون يثقون الآن في الثعلب العجوز، بشكل أكبر، مقارنة بثقتهم فيه حين كان يشغل منصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية، في عهد الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون.
وحذر كيسنجر، باراك أوباما من سياسة القيادة من وراء الكواليس، وبين له أن كل مربع قوة ونفوذ أميركي يخليه سوف يقوم غريمه فلاديمير بوتن بملئه في التو، وهذا ما حدث بالفعل في ملفات ساخنة كالملف السوري.
ويحظى كيسنجر في الصين بتقدير خاص، وهنا يُحسب لترامب استخدام أوراق جيدة على صعيد العلاقات الخارجية، فقد أشاد به وزير خارجية الصين وانغ بي، وطلب منه الصينيون مواصلة القيام بدوره الذي لا غنى عنه، حسب تعبير الوزير الصيني، في طريق التنمية السلسة والصحية لهذه العلاقات.
ويرى كيسنجر أن المفاوضات التجارية ستكون ناجحة في حالة واحدة فقط؛ وهي أن تفتح الابواب أمام مناقشة سياسية.
وهذا يعني أن المسألة أكبر من الموازنات التجارية، أي أنها نزاع على القطبية العالمية القائمة والقادمة، أما على مستوى تدفق السلع والبضائع ورؤوس الأموال فكل طرف في حاجة إلى الآخر، لأن أميركا أكبر سوق لتصريف منتجات الصين، وبنك الاحتياط الأميركي أفضل مكان تستثمر فيه الصين فوائضها النقدية.
ويمكن القول، بشكل مبدئي، إن زيارة كيسنجر الأخيرة للصين سعت إلى الحؤول دون تحول الخلاف إلى اشتباك، وهناك ملفات ساخنة بين البلدين مثل تايوان وهونغ كونغ، وبحر الصين الجنوبي.
وحين يقول وزير الخارجية الصيني إن المواجهة مع أميركا ليست في صالح الدولتين، ويدعو إلى الحوار لتعميق التفاهمات المشتركة، فإن ذلك يعني أن كيسنجر قد نجح من وراء الكواليس في تغيير الأوضاع وتبديل الطباع الأمر.
وهذا التحول قد ينعكس لاحقا في اتفاق تجاري أميركي – صيني يمهد لفترة من التعايش القطبي بين البلدين، وهذا الأمر من شأنه أن يؤثر بشكل إيجابي على مقدرات العالم، ويبدد المخاوف الاقتصادية المحتملة في 2020 والتي يمكنها أن تهدد الجميع.