بالتواضع والمحبة.. بابا الكاثوليك وشيخ الأزهر يصنعان التاريخ
04:04 - 05 فبراير 2019في ساحة بيضاء تحيط بثريا يرسم الضوء المنعكس عليها ملامح الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، كان المئات من ممثلي الديانات المختلفة متلهفين لحدث تاريخي، وبعد وقت قليل، دخل زعيما أكبر ديانتين في العالم يسيران هونا بينما كان ردهما واحد على تحية الحاضرين عندما وضع كل منهما يده اليمنى على صدره.
وممسكا بأيديهما معا، كان نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، يتوسط بابا الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسيس، وشيخ الأزهر الإمام الأكبر، أحمد الطيب، على بعد خطوات كانت تفصلهما عن توقيع وثيقة "الأخوة الإنسانية"، التي سطر فيها الرجلان خلاصة جهد مشترك استمر شهورا عديدة، بهدف إنقاذ العالم من نيران التوتر الطائفي والكراهية.
وجاء الضيفان الكبيران إلى صرح زايد المؤسس، بعدما عقدا اجتماعا في جامع الشيخ زايد الكبير مع مجلس حكماء المسلمين، وقد أديا الصلاة هناك، لرب واحد، وفي سابقة بروتوكولية تعكس متانة العلاقة التي تجمع بين أكبر مؤسستين دينيتين في العالم، نزل الضيفين في بيت واحد أيضا.
وفي كلمته أمام الحضور الكبير المتنوع، بدأ الشيخ أحمد الطيب كلمته إلى البابا فرانسيس "أخي وصديقي البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية"، قبل أن يوجه الشكر إلى قادة الإمارات:" الأخ العزيز الشيخ محمد بن زايد وأخيه الشيخ محمد بن راشد، وإخوته قادة دولة الإمارات العربية المتحدة"، ليفتتح كلمته بالمعنى الذي عمل من أجله مع "أخيه" البابا فرنسيس، وهو تعزيز "الاخوة الإنسانية".
وذكر شيخ الأزهر كيف نبتت فكرة "وثيقة الأخوة" على "مائدة كريمة كنت فيها ضيفا على أخي وصديقي العزيز فرنسيس بمنزله العامر، حين أَلقى بها أحد الشَباب الحاضرين على هذه المائدة المباركة، ولَقيَت ترحيبًا واستحسانًا كريمًا من قداسته، ودعما وتأييدا مني، وذلك بعد حوارات عِدة تأملنا فيها أوضاع العالَم وأحواله، ومآسي القتلى والفقراء والبؤساء والأرامل واليتامى والمظلومين والخائفين، والفارين من ديارهم وأوطانهم وأهليهم، وما الذي يمكن أن تقدمه الأديان كطوق نجاة لهؤلاء التعساء".
وعبر اطلاع سكاي نيوز عربية على صور للبابا في مكتبه بالفاتيكان وشيخ الأزهر في مكتبه بالقاهرة، وكل منهما يدرس ويعدل في مسودة الوثيقة، يبرز مدى الجهد الذي بذله الصديقان من أجل الخروج بوثيقة تاريخية تقف ضد الدمار والكراهية بقيم التسامح والعيش المشترك.
وما أدهش الشيخ الطيب، بحسب كلمته أمام الحضور أن همومه كانت متطابقة أشد التطابق مع هموم البابا "وأن كل منا استشعر حرمة المسؤولية التي سيحاسبنا الله عليها في الدار الآخرة، وكان صديقي العزيز رحيما يتألم لمآسي الناس كل الناس. بلا تفرقة ولا تمييز ولا تحـفظ".
وبالفعل كانت كلمة البابا معبرة عن هذا التطابق عندما بدأ بتواضع كلماته بتحية الإسلام "السلام عليكم"، ليعرج بها قائلا إن شعار هذه الزيارة يتألف من حمامة تحمل غصن زيتون، وأن "السلام كي يحلق يحتاج إلى جناحين يرفعانه. يحتاج إلى جناحي التربية والعدالة".
موارد الأرض والقلب
وفي إشادة بالأرض التي وصفها بـ"المباركة" التي تستضيف هذا الحدث التاريخي، اعتبر البابا أنه "لأمر مشجع أن نرى في هذا البلد أنه لا يتم الاستثمار في استخراج موارد الأرض وحسب، بل أيضا موارد القلب أي في تربية الشبيبة"، مشيرا إلى الإمارات التي جعلت من التسامح عنوانا لعام 2019.
وعلى منصة بيضاء، شرع البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب في توقيع "وثيقة الأخوة الإنسانية"، كأول ميثاق مكتوب من نوعه بين ممثلي أكبر ديانتين في العالم، وسط تصفيق من رموز ديانات وثقافات جاءت إلى أبوظبي قادمة من مختلف أنحاء العالم.
وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، اعتبر في تصريحات خاصة لموقع سكاي نيوز عربية أن "هذه المبادرة التي يشرف عليها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ليست فقط تاريخية برمزيتها وما تمهد له.. وإنما تأتي أيضا في وقت أصبحت فيه تربة التسامح في حال أفضل، فتستطيع أن تثمر مع خطوات متابعة واستمرار التواصل".
وبينما اتجهت الإشادات العالمية إلى الإمارات على استضافتها لهذا الحدث التاريخي، قال قرقاش لموقع سكاي نيوز عربية: "أود أن أكون أكثر تواضعا، وبالتالي أقول إن المسؤولية مشتركة عربيا وعالميا. الهدف ليس هو أول من قام بهذه الخطوة وإنما الهدف هو أن تكون الخطوة قوية الجذور وذات استمرارية"
فهذا العمل لصالح الإنسانية، بحسب الوزير الإماراتي الذي يعتقد أن "ما تنقله الإمارات هو قناعة واضحة بأنك ستكون أفضل حين تكون متصلا مع الانسانية وجزء منها".
السمو فوق الاختلافات
و"الحدث التاريخي العظيم"، بحسب وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة الإماراتية، نورة بنت محمد الكعبي، يأتي بتلاقي "شخصيتين عظيمتين.. وهنا نتحدث عن أمر سامي جدا يجمعنا كبشر وهو الإنسانية والتسامح."
وأضافت الوزيرة في تصريحات خاصة أن "هناك اختلافات بلا شك بين الأديان والعقائد، لكن الأهم منذ ذلك هو ما يسمو. وهو ما نره هنا في أرض التسامح.. أرض الإمارات".
وعانت المنطقة من الصراعات ولا تزال، وفق الكعبي التي أشارت أيضا أن مناطق أخرى في العالم لها نصيب أيضا من الصراعات التي قد تتخذ منحى عرقيا، وهو ما يدفع إلى ضرورة "أن نركز فيما يمكن أن ننتجه من هذا اللقاء عبر مشاريع ومعاهدات".
"علينا أن نتغلب على الصراعات بالتعايش والإنسانية والتسامح.. نتمنى أن تعزز رسالة هذا اللقاء ذلك".
وذهبت وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، نبيلة مكرم، إلى التأكيد على "استعادة القيم العربية الإنسانية"، وعبرت عن تفاؤلها بما سينتج عن الوثيقة التاريخية من تأثير عالمي.
وقالت لموقع سكاي نيوز عربية إن عام "2019 بدأ بمؤتمر هام بهذا الحجم وبالتأكيد سيرفعنا إلى مرحلة أخرى من التعاون وقبول الأخر والمحبة في العالم.. وبالتأكيد سيكون لوثيقة الأخوة الإنسانية مدلول كبير، ويتعين علينا العمل من أجل تنفيذ ما جاء فيها".
لا خيار أمامنا
وامتدادا للآمال الكبيرة المنعقدة على المبادرة التاريخية لبابا الكاثوليك وشيخ الأزهر، اعتبرت الرئيس الفخري لمنظمة تحالف الأمل العالمي والمدير العام السابق لليونيسكو، إيرينا بوكوفا، أن الزيارة التاريخية لكلا القيادتين الدينيتين "مشجعة للغاية، وأنا سعيدة باستضافة الإمارات لهذه القمة، فهي بلد أعطى أمثلة عديدة على الانفتاح واحترام التنوع والتضامن مع الآخرين".
بوكوفا التي اجتمعت مع شيخ الأزهر في وقت سابق من اليوم، عبرت لموقع سكاي نيوز عربية عن أملها بأن يتلقى الناس هذه الرسالة القوية بالبحث عن طرق جديدة لكيفية العيش معا رغم الاختلافات.
وتدرك بوكوفا جيدا أن الاختلافات والإرهاب في القارة الأوروبية مثلت عناوين لدى اليمين المتطرف كذريعة لتخويف الناس من الأجانب، قائلة: "صعود التطرف والخوف من الأجانب يمثلان تهديدا للجميع، وهنا لا أتكلم فقط عن اللاجئين وإنما عن أناس عاديين يعيشون بيننا بشكل قانوني لكنهم يعانون من نفس المشكلات لمجرد أنهم مختلفين".
وأضافت: "أعتقد انه لا خيار أمامنا سوى أن نجد طريقة للتعايش".
ولم ينته اللقاء التاريخي قبل أن يعلن الشيخ محمد بن راشد عن "جائزة الأخوية الإنسانية- من دار زايد" والتي منحها للبابا وشيخ الأزهر مع تدشين مشروعا لبناء مسجد وكنيسة جنبا إلى جنب في العاصمة الإماراتية يحملان اسميهما، تكريما لهما.
ووقع الضيفان الكبيران على حجر أساس إنشاء بيتي الله بخط صغير الحجم، ليدشنا بتواضع رمزية جديدة للتعايش بين الأديان على أرض الإمارات.