الخدمات تحت النيران.. هل تغيّر الصين قواعد اللعبة التجارية؟
05:05 - 18 أبريل 2025
بعد جولات متصاعدة من الرسوم الجمركية المتبادلة التي طالت تدفق السلع بين أكبر اقتصادين في العالم، يبدو أن الصين بدأت في تحويل تركيزها نحو ساحة جديدة في حربها التجارية مع الولايات المتحدة.
فبينما كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تلوح بسلاح الرسوم على البضائع الصينية، ردت بكين في البداية بإجراءات مماثلة، لكنها سرعان ما أشارت إلى أن المزيد من هذه الزيادات سيكون "لا معنى له". والآن، تتجه الأنظار إلى تحركات بكين الأخيرة التي تستهدف بشكل متزايد قطاع الخدمات الأميركي الحيوي، بالإضافة إلى أدوات أخرى غير تقليدية.
فمن تقييد الوصول إلى المعادن النادرة إلى التدقيق في عمليات الشركات الأميركية العملاقة، وصولاً إلى التلويح بتقويض قطاعات مثل الطيران والترفيه والتعليم،
وتبرز التساؤلات حول طبيعة الرد الصيني القادم. فهل تكون "أسلحة" الخدمات هي الورقة الرابحة الجديدة في يد بكين؟ وهل يمثل هذا التحول في الاستراتيجية الصينية تغييراً جذرياً في قواعد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة؟
55 مليار دولار قيمة واردات الصين من الخدمات الأميركية
بدأت الصين في استهداف قطاع الخدمات الأميركي الحيوي كجزء من ردها المتصاعد على الرسوم الجمركية الأميركية، وذلك بعد أن قللت من شأن الزيادات الإضافية في الرسوم على السلع، بحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
ونقلت الشبكة عن مصادر صينية إعلانها انتهاء الرد على رسوم ترامب، مؤكدة أن أي زيادات أخرى ستكون "مزحة" سيتم تجاهلها. وبدلاً من الاستمرار في التركيز على الرسوم على البضائع، اتجهت بكين نحو اتخاذ تدابير تستهدف بشكل خاص قطاع الخدمات الأميركي، الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بفائض تجاري ملحوظ مع الصين.
ووفقاً للتقرير، فإن هذه الخطوة الصينية تأتي بعد أن رفعت إدارة ترامب الرسوم الجمركية على سلع صينية مختارة بنسب تصل إلى 245 بالمئة في أعقاب جولات متعددة من الإجراءات الانتقامية المتبادلة. في حين فرضت الصين الأسبوع الماضي رسوماً جمركية إضافية على الواردات من الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 125بالمئة.
ورغم تركيز واشنطن على خطط التعرفات، بدأت بكين في تطبيق سلسلة من الإجراءات التقييدية غير الجمركية، تشمل توسيع نطاق ضوابط التصدير للمعادن الأرضية النادرة وفتح تحقيقات في مكافحة الاحتكار تستهدف شركات أميركية بارزة مثل دوبونت وغوغل.
وأوضح التقرير أن بكين كانت قد وضعت بالفعل عشرات الشركات الأميركية على قائمة "الكيانات غير الموثوقة" في فبراير الماضي، مما يهدد بتقييد أو حظر تعامل هذه الشركات تجارياً أو استثمارياً في الصين.
كما شددت الصين قبضتها على صادرات المعادن الحيوية، مما يستلزم حصول الشركات الصينية على تراخيص خاصة لتصدير هذه الموارد، وهو ما يعيق وصول الولايات المتحدة إلى معادن أساسية لصناعات حيوية كأشباه الموصلات وأنظمة الدفاع والخلايا الشمسية.
وأشار إلى أن أحدث تحركات بكين كان استهدافاً مباشراً لشركة بوينغ، أكبر مُصدر أميركي، حيث أصدرت أوامر لشركات الطيران الصينية بعدم استلام المزيد من طائراتها وطلبت وقف أي مشتريات لمعدات وقطع غيار الطائرات من الشركات الأميركية، يأتي هذا في وقت تعاني فيه الشركة الأميركية من صعوبات مالية وأزمة مستمرة في مراقبة الجودة. كما أشارت تقارير إلى قيام الشرطة الصينية بإصدار مذكرات اعتقال بحق ثلاثة أشخاص بتهمة شن هجمات إلكترونية ضد الصين لصالح وكالة الأمن القومي الأميركية، وحثت وسائل الإعلام الصينية على تجنب استخدام التكنولوجيا الأميركية.
وقالت ويندي كاتلر، نائبة رئيس معهد سياسات جمعية آسيا: "إن بكين ترسل إشارة واضحة إلى واشنطن مفادها أن كليهما يمكن أن يلعب في لعبة الانتقام هذه وأنها لديها العديد من الأدوات التي يمكنها استخدامها، وكلها تخلق مستويات مختلفة من الألم للشركات الأميركية. وفي ظل الرسوم الجمركية المرتفعة والقيود الأخرى المفروضة، فإن عملية الانفصال بين الاقتصادين تسير على قدم وساق".
وتتج الصين بشكل متزايد نحو استهداف تجارة الخدمات، التي تشمل السفر والخدمات القانونية والاستشارية والمالية، وهو قطاع تحقق فيه الولايات المتحدة فائضاً تجارياً كبيراً مع الصين منذ سنوات، بحسب تقرير الشبكة الأميركية، الذي أشار إلى أن الصين أعلنت عزمها تقليل واردات الأفلام الأميركية وحذرت مواطنيها من السفر أو الدراسة في الولايات المتحدة، في إشارة واضحة إلى الضغط على قطاعات الترفيه والسياحة والتعليم الأميركية.
وارتفعت واردات الصين من الخدمات الأميركية بأكثر من عشرة أضعاف لتصل إلى 55 مليار دولار في عام 2024 على مدى العقدين الماضيين، وفقًا لتقديرات (نومورا)، مما دفع فائض تجارة الخدمات الأميركية مع الصين إلى 32 مليار دولار في العام الماضي.
ووفقاً لشركة نومورا، هيمن السفر على الخدمات الأميركية المقدمة إلى الصين، مما يعكس إنفاق ملايين السياح الصينيين في الولايات المتحدة.
وضمن قطاع السفر، يتصدر الإنفاق المتعلق بالتعليم بنسبة 71 بالمئة، حسب تقديراتها، ويأتي معظمه من الرسوم الدراسية ونفقات المعيشة لأكثر من 270 ألف طالب صيني يدرسون في الولايات المتحدة.
تحول استراتيجي
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" اعتبر الخبير الاقتصادي، الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي توسيع بكين ساحة المواجهة في حربها التجارية مع الولايات المتحدة، باستهداف قطاع الخدمات رداً على فرض الرسوم الجمركية على السلع، بالتحول الاستراتيجي، مشيراً إلى أنها خطوة تهدف إلى الضغط على نقاط حساسة في الاقتصاد الأميركي وتعكس تسارع وتيرة "فك الارتباط" بين أكبر اقتصادين في العالم.
وقال: "ينذر هذا التوجه بأن الحرب التجارية قد تجاوزت مرحلة تبادل الرسوم على البضائع لتصبح مواجهة أشمل وأكثر تعقيداً، وخصوصاً أنها جاءت بعد جولات من فرض الرسوم المتبادلة، والتي وصفت الصين تصعيدها الأخير من قبل واشنطن بأنه لعبة أرقام بلا معنى".
تغيير قواعد الاشتباك وتداعياته
وأكد الخبير الاقتصادي الدكتور المصبح أن استهداف قطاع الخدمات تعتبر تغييراً جوهرياً في قواعد الحرب التجارية. فمن خلال استهداف قطاع تُحقق فيه الولايات المتحدة فائضاً، تضغط الصين على نقطة قوة أميركية بدلاً من مجرد الرد على نقاط ضعفها.
كما أن لهذا الاستهداف تداعيات سياسية واجتماعية أعمق داخل الولايات المتحدة، لأنه يمس قطاعات التعليم والسياحة والإعلام بشكل مباشر، وقد يؤدي إلى "تأثيرات سمعة" طويلة الأمد تُضعف جاذبية الولايات المتحدة للطلاب والاستثمارات، بحسب تعبيره.
إعادة هيكلة التجارة العالمية عبر مبادرة الحزام والطريق
وختم حديثه بقوله: "في المحصلة، تُظهر الصين أنها تمتلك أدوات رد متنوعة تتجاوز الرسوم الجمركية، وأنها مستعدة لاستخدام قطاع الخدمات كسلاح فعال للضغط على واشنطن، مما يجعل الحرب التجارية أكثر تعقيداً ويُصعّب من إيجاد حلول سريعة لها.
من جانبه قال الخبير الاقتصادي هاشم عقل، عضو مجلس أمناء مركز الشرق الأوسط للدراسات الاقتصادية، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن "الحكمة الصينية القديمة تقول: لا تقاطع عدوك عندما يرتكب خطأ، وهذا ما طبقه الرئيس الصيني شي جين بينغ في تعامله مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث اختارت بكين الرد بهدوء استراتيجي يقلب موازين اللعبة".
وأكد عقل أن الصين لم تعد تكتفي برد الفعل تجاه الضغوط الأميركية، بل بدأت بالفعل بإعادة صياغة قواعد اللعبة التجارية والاستراتيجية، من خلال سلسلة إجراءات تعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي والاقتصادي العالمي.
وأشار إلى أن الصين كثفت من استهداف الشركات الأميركية، حيث أدرجت مؤخراً شركات مثل "شيلد إيه آي" و"سييرا نيفادا" على قائمتها السوداء بسبب تعاونها مع تايوان، ما يعكس تصعيداً نوعياً في الرد الصيني.
ولفت الخبير الاقتصادي عقل إلى أن بكين تسعى لإعادة هيكلة التجارة العالمية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، حيث عززت شراكاتها مع روسيا وأفريقيا وآسيا، وخفّضت الجمارك إلى صفر مع أكثر من 50 دولة، منها 33 دولة إفريقية، مما يحد من اعتمادها على السوق الأميركية.
وأوضح أن الصين اخترقت الحصار التجاري الأميركي عبر دول وسيطة مثل ماليزيا وفيتنام لتصدير سلعها، ما دفع واشنطن إلى فرض عقوبات على هذه الدول. كما تعمل الصين على تعزيز استخدام عملتها المحلية، اليوان، في التبادلات التجارية، خصوصاً في تجارة النفط والسلع الأساسية، في خطوة تهدد هيمنة الدولار.
المعركة التكنولوجية أبرز محاور المواجهة
وشدد عقل على أن المعركة التكنولوجية تمثل أحد أبرز المحاور الأساسية في المواجهة، حيث تستثمر الصين مليارات الدولارات في تطوير صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، وتواصل شركاتها مثل "هواوي" التوسع في تقنيات 5G والذكاء الاصطناعي، رغم القيود الأميركية.
وتحدث عقل عن تحركات الصين الدبلوماسية المكثفة، حيث تعمل على جذب الاتحاد الأوروبي نحو موقف ثالث بعيداً عن الاصطفاف مع واشنطن، وتلعب أدوار وساطة ناجحة في قضايا إقليمية، مما يعزز صورتها كقوة دبلوماسية بديلة.
وأكد أن بكين تدعم بقوة المؤسسات المالية البديلة، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، للحد من الاعتماد على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين تهيمن عليهما الولايات المتحدة.
وقال إن الصين باتت تعيد كتابة قواعد اللعبة من خلال:
- تحويل مسار التجارة بعيداً عن أميركا.
- تعزيز الاكتفاء التكنولوجي والصناعي.
- تفعيل أدوات مالية ودبلوماسية لبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب.
- تحميل الاقتصاد الأميركي كلفة التصعيد عبر التضخم وتمرد قطاع الأعمال.
وأشار عقل إلى أن هذا النهج قد يؤدي إلى تحول دائم في موازين القوى العالمية، إذا ما تمكنت الصين من كسر الحصار التكنولوجي واستقطاب حلفاء جدد إلى محورها الاقتصادي.