كيف فرضت اختبارات التصادم واقعاً جديداً على صناعة السيارات؟
11:00 - 14 يونيو 2025
تودي حوادث السيارات بحياة أكثر من مليون شخص حول العالم سنوياً، حيث يعكس هذا العدد الكبير من الوفيات، مسؤولية مزدوجة تتحمّلها من جهة شركات السيارات التي لا تعتمد دائماً أعلى معايير السلامة خلال التصنيع، ومن جهة أخرى أنظمة النقل العالمية التي تعاني من خلل مزمن في توفير الحدّ الأدنى من الأمان على الطرق، خصوصاً في الدول ذات البنى التحتية الضعيفة.
وقد حجب هذا العدد الهائل من الوفيات الناتج عن حوادث الطرق السنوية، والذي ظل ثابتاً نسبياً لمدة 25 عاماً، قصة نجاح مهمة حققها العالم في مجال معايير سلامة السيارات، فالمركبات المباعة اليوم أصبحت أقل فتكاً بشكل ملحوظ من سابقاتها.
ولكن في المقابل، فإن الارتفاع المستمر في عدد السيارات على الطرق، زاد من احتمالات وقوع الحوادث، ما أبقى أرقام الوفيات على حالها، في حين أنه لو لم تُعتمد المعايير الجديدة لسلامة السيارات، لكانت حصيلة الوفيات اليوم أكثر فداحة بكثير.
وجاء التقدّم في معايير سلامة السيارات نتيجة الضغوط التي مارستها منظمات مستقلة متخصصة بـ "اختبارات التصادم"، حيث دفعت هذه الجهات شركات صناعة السيارات إلى الواجهة، كاشفة عن جوانب القصور في نماذجها، ما اضطر المصنّعين إلى إعادة ترتيب أولوياتهم، وتبنّي معايير أمان أكثر صرامة لحماية الركاب.
وفي الوقت الراهن، تُلزم أعداد متزايدة من الحكومات، شركات تصنيع السيارات بتضمين ميزات أمان أساسية في جميع المركبات الجديدة، وعلى رأسها الوسائد الهوائية، ومناطق امتصاص الصدمات، وأنظمة الفرملة (ABS)، والتحكم الإلكتروني بالثبات (ESC)، ومستشعرات ربط حزام الأمان، وحتى أنظمة التنبيه عند الخروج عن المسار أو الاصطدام الأمامي.
ولكن ورغم جميع هذه الخطوات فإن الطريق نحو مركبات أكثر أماناً لا يزال محفوفاً بالمخاطر، إذ كثيراً ما تُبدي شركات تصنيع السيارات تحفظاً على تشديد القواعد التنظيمية، معتبرةً أن بعض الإجراءات الإضافية غير ضرورية وتفرض أعباءً مالية كبيرة على عمليات الإنتاج.
"اختبارات التصادم" تعيد تشكيل صناعة السيارات
وبحسب تقرير أعدته "بلومبرغ" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فقد كشف ديفيد وارد الذي ساهم في إطلاق برامج "اختبارات التصادم" في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، قبل أن يتنحى هذا العام عن منصبه كقائد للمنظمة الدولية لسلامة السيارات "Global NCAP"، أن العديد من شركات السيارات في العالم كانت تعتمد في السابق استراتيجية تتمثل في رفض وتأخير الاعتماد على معايير جديدة للسلامة، إلا أن هذه الشركات هُزمت أمام إصرار منظمات مستقلة متخصصة بـ "اختبارات التصادم".
ويقول وارد إن ما "يُثلج الصدر" فيما يتعلّق بأمان السيارات هو التقدم الذي تم احرازه في الهند، حيث شهدت السوق تحولاً جذرياً خلال العقد الماضي، فمع بدء تطبيق "اختبارات التصادم"، أصبحت السيارات هناك على قدم المساواة مع أوروبا والولايات المتحدة من حيث الحماية، مشيراً إلى أنه في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كانت جميع السيارات الهندية بمثابة "فخ للموت"، كونها خالية من أدنى مستويات الأمان وهيكلها ضعيف للغاية، ولكن عندما تم إطلاق "اختبارات التصادم" في البلاد، انقلب الوضع رأساً على عقب وأصبحت العلامات الهندية مثل تاتا تضاهي في جودتها السيارات المصنوعة في أوروبا وأميركا.
ويلفت وارد إلى أن شركات السيارات الفاخرة مثل فولفو ومرسيدس، لم تعد تنظر إلى ميزات الأمان كمتطلبات تنظيمية فقط، بل أصبحت توظفها كعنصر تسويقي أساسي يعبّر عن التزامها بالتكنولوجيا المتقدمة وحماية الركاب، فالأمان بات جزءاً لا يتجزأ من هوية هذه العلامات التجارية، ومن العوامل التي تعزّز ثقة المستهلكين.
لماذا يوجد عدد كبير من "اختبارات التصادم"؟
ويؤكد وارد أن توحيد معايير "اختبارات التصادم" والسلامة عالمياً من شأنه أن يُحدث نقلة نوعية في قطاع السيارات، إذ يسدّ الفجوة الحالية بين الدول المتقدمة والأسواق الناشئة، ويضمن حق الجميع في مركبات آمنة، غير أن تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يتم بشكل فُجائي، نظراً للتفاوت الكبير في أوضاع الأسواق حول العالم.
ويشير وارد إلى أن البرنامج الأوروبي لتقييم السيارات الجديدة (Euro NCAP) هو حالياً الأكثر تقدماً من حيث معايير الأمان، لكن تطبيقه كما هو في أسواق مثل الهند أو أميركا اللاتينية قد يكون صعباً، لأن تكاليف الامتثال له، سترفع أسعار السيارات بشكل كبير، وهو ما قد لا يكون مقبولاً لدى المستهلكين في تلك الدول.
ولذلك، يشدّد وارد على أهمية اعتماد نهج تدريجي لتشديد معايير الأمان، بما يراعي الخصوصيات الاقتصادية لكل سوق، ففي العديد من الأسواق الناشئة، لا يزال المستهلك مستعداً للمساومة على السلامة مقابل توفير مبلغ بسيط، ما يجعل التغيير المفاجئ غير عملي، بل وقد يؤدي إلى نتائج عكسية.
ما هي "اختبارات التصادم"؟
ويقول الخبير المحلف في حوادث السير سامي مراد، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه عندما نتحدث عن "اختبارات التصادم" أو ما يُعرف بـ Crash Tests، فنحن أمام واحدة من الركائز الأساسية في تقييم سلامة المركبات على مستوى العالم، وهذه الاختبارات هي محاكاة دقيقة لسيناريوهات الحوادث الواقعية، التي قد يتعرّض لها السائقون والركاب، والتي تهدف إلى قياس قدرة السيارة على امتصاص الصدمة وقت وقوع الحادث وإلى تحديد نقاط الضعف في تصميمها البنيوي وأنظمة الأمان فيها.
ويشرح مراد أن هناك عدة أنواع من "اختبارات التصادم"، منها التصادم الأمامي المباشر، التصادم الجانبي، التصادم الخلفي، التصادم مع المشاة، التصادم الجزئي لقياس قوة الهيكل، مشيراً إلى أن معايير "اختبارات التصادم"، مبنية على قواعد هندسية دقيقة مشتقة من بيانات حوادث حقيقية، وهي تخضع لتحديثات دورية تواكب تطوّر المواد والتقنيات في صناعة السيارات.
وبحسب مراد فإن "اختبارات التصادم"، تتم داخل منشآت متخصصة وتخضع لإشراف برامج تقييم مستقلة، أبرزها Euro NCAP في أوروبا، وIIHS في الولايات المتحدة، وGlobal NCAP التي تركز على الأسواق الناشئة مثل الهند وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وإذا حصلت السيارة على تقييم من خمس نجوم، فهذا يعني أنها قدّمت أداءً ممتازاً في حماية الركاب، أو أظهرت فعالية عالية في أنظمة المساعدة على تفادي الحوادث، في حين أن الحصول على نجمة واحدة أو نجمتين يعكس قصوراً خطيراً في البنية الهيكلية، ما يجعل الركاب أكثر عرضة لإصابات جسيمة أو حتى الوفاة في حال وقوع حادث.
ثمن السلامة
بدوره يقول الخبير في تجارة وبيع السيارات محمد الحاج، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن "اختبارات التصادم" لم تكتف بالكشف عن عيوب فنية في تصميم المركبات، بل قلبت معادلة صناعة السيارات برمّتها، ففي السابق كانت الأولوية تُعطى للتكلفة والسرعة في الإنتاج، وغالباً ما كانت السلامة تُعامَل كميزة إضافية، أما اليوم فقد أصبح امتثال السيارة لمعايير السلامة المتقدمة عاملاً حاسماً في قبولها داخل الأسواق العالمية، وهذا ما يُمكن تسميته بـ "ثمن السلامة"، فإدخال أنظمة أمان متقدمة مثل الوسائد الهوائية المتعددة والهياكل القابلة لامتصاص الصدمات، وأنظمة الكبح الذكية، لا يتم من دون تكلفة، إذ أن هذه التحسينات غالباً ما ترفع من سعر السيارة.
فجوة بين المختبر والشارع
ويضيف الحاج إنه بفضل الضغوط التي فرضتها برامج "اختبارات التصادم" المستقلة، اضطرّت شركات السيارات إلى التخلي عن نهج تقليدي، قائم على الحد الأدنى المقبول من الأمان، وبدأت ترى في السلامة استثماراً طويل الأمد في الثقة، مشيراً إلى أنه رغم التقدم الكبير الذي أُحرز في تحسين معايير الأمان في السيارات، إلا أن هناك فجوة مقلقة بين معايير الحماية النظرية والواقع العملي، فمثلاً بعض المركبات تحصل على تقييمات عالية في "اختبارات التصادم" ضمن ظروف مثالية ومختبرية، لكنها تفشل في توفير نفس مستوى الحماية في الظروف الفعلية التي تسود طرقات الدول ذات البنية التحتية الضعيفة، في حين أن غياب الصيانة الدورية عن السيارة، يؤثر سلباً على أنظمة الأمان الأساسية الموجودة فيها.
وشدّد الحاج على أن فعالية "اختبارات التصادم" لا تنحصر في تصميم السيارة فقط، بل تمتد إلى البيئة التنظيمية التي تُباع وتُستخدم فيها المركبة، موضحاً أنه حتى أكثر السيارات تطوراً من حيث الأمان، قد تتحوّل إلى مصدر خطر على الطرق، إذا غابت الرقابة على الصيانة الدورية، أو استُخدمت إطارات غير صالحة، أو تم تجاهل السرعات المسموح بها، أو تعطلت أنظمة السلامة دون إصلاح.