هل تضحي بريطانيا بالعدالة الضريبية من أجل استقطاب الأثرياء؟
11:44 - 31 يناير 2025تواجه المملكة المتحدة تحدياً في تحقيق التوازن بين جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز العدالة الضريبية. ففي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة إلى تعزيز الاقتصاد وجذب رؤوس الأموال، تزداد المخاوف بشأن تأثير هذه السياسات على الطبقات الأقل دخلًا.
فمع تزايد هجرة الأثرياء، تتجه أنظار الحكومة نحو تعديل قوانين الضرائب لتشجيعهم على البقاء والاستثمار في البلاد. ولكن هل ستؤدي هذه التغييرات إلى استعادة المليونيرات، وهل تتنازل بريطانيا عن العدالة الضريبية من أجل جذب الاستثمارات؟
أكدت وزارة الخزانة البريطانية أن المملكة المتحدة ستخفف بعض التغييرات المخطط لها في قاعدة الضرائب غير المقيمة المثيرة للجدل بعد مخاوف من هجرة الملايين، بحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
نظام غير المقيم
أوضح التقرير أن النظام غير المقيم في بريطانيا، والذي يعود تاريخه إلى 200 عام، يسمح للأشخاص الذين يعيشون في المملكة المتحدة، ولكنهم مقيمون في مكان آخر لأغراض الضرائب، بتجنب دفع الضرائب على الدخل والأرباح الرأسمالية المكتسبة في الخارج لمدة تصل إلى 15 عاماً.
ولطالما أثار هذا النظام الجدل، مما دفع وزيرة المالية البريطانية راشيل ريفز في ميزانيتها في أكتوبر الماضي إلى تأكيد أنه سيتم إلغاؤه اعتباراً من أبريل 2025، وأن جميع المقيمين على المدى الطويل سيكونون خاضعين لضريبة الميراث (IHT) على أصولهم العالمية، بما في ذلك تلك الممسوكة في الثقة.
وقالت ريفز، في حديث لها خلال فعالية على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، إن الحكومة ستقدم قريباً تعديلاً على قانون المالية في البلاد، مما يزيد من سخاء قاعدة تسمح للأشخاص غير المقيمين بإحضار الأموال إلى المملكة المتحدة دون دفع ضرائب كبيرة.
وذكرت ريفز عندما سُئلت عن مغادرة الأثرياء مؤخراً "لقد استمعنا إلى المخاوف التي أثيرت من قبل مجتمع غير المقيمين، في مشروع قانون المالية، سنقدم تعديلاً، تمكن غير المقيمين من جلب الأموال إلى المملكة المتحدة دون دفع ضرائب كبيرة".
طمأنة المستثمرين
كما سعت ريفز إلى طمأنة المستثمرين الأجانب الأثرياء بأن التغييرات لن تؤثر على اتفاقيات الازدواج الضريبي المبرمة بين المملكة المتحدة ودول أخرى، وقالت: "هناك بعض المخاوف من البلدان التي لديها اتفاقيات ضريبية مزدوجة مع المملكة المتحدة، بما في ذلك الهند، من أنها ستجذب لدفع ضريبة الميراث. هذا ليس هو الحال. لن نقوم بتغيير تلك اتفاقيات الازدواج الضريبي".
وقال متحدث باسم الخزانة في بيان إن التعديلات تهدف إلى تحفيز غير المقيمين "على جلب أموالهم إلى المملكة المتحدة، مما يشجعهم على إنفاق هذه الأموال واستثمارها هنا".
وأضاف البيان: "بينما لا نتوقع أن تؤثر هذه التغييرات على عائدات الضرائب البالغة 33.8 مليار جنيه إسترليني التي توقع مكتب مسؤولية الميزانية جمعها على مدى خمس سنوات، إلا أنها تعكس استمرار مشاركتنا مع أصحاب المصلحة للتأكد من أن الإصلاحات التي تم الإعلان عنها في الميزانية تعمل كما هو مقصود".
ولفت تقرير الشبكة الأميركية إلى أن الحملة التي شنتها الحكومة في أكتوبر على غير المقيمين شكلت جزءاً من تدابير أوسع نطاقاً تستهدف الطبقات العليا، مع فرض رسوم جديدة على رؤساء صناديق الأسهم الخاصة والمدارس الخاصة والمنازل الثانية والطائرات الخاصة.
ونوه التقرير إلى تحذير النقاد في ذلك الوقت من أن هذه الخطوات ستؤدي إلى هجرة جماعية للأفراد الأكثر ثراء - والذين قالوا إنهم سيكونون مساهمين رئيسيين في أجندة الحكومة المؤيدة للاستثمار.
10800 مليونير هاجروا في عام
ووفقًا لأرقام شركة التحليلات العالمية New World Wealth ومستشاري الهجرة الاستثمارية Henley & Partners، غادر المملكة المتحدة حوالي 10800 مليونير العام الماضي، بزيادة قدرها 157 بالمئة عن عام 2023.
وقال جيمس أوستن، الشريك الضريبي في Collyer Bristo: "إن التعديل الذي تم الإعلان عنه سيكون بمثابة خبر سار لكثير من دافعي الضرائب أصحاب الثروات العالية، لكنه تساءل عما إذا كان سيكون كافياً لوقف تدفقات الثروات.
وأضاف "إن التعديل المقترح للحكومة على قانون المالية ليس تغييراً كبيراً في خططها، ولا تزال العديد من المخاوف بشأن النظام الجديد، لا سيما فيما يتعلق بالثقة وضريبة الميراث. لا أتوقع أن يؤدي ذلك إلى 'تحريك مؤشر' لمعظم غير المقيمين".
تقليص النفقات الحكومية الحل العادل والمستدام
من لندن، قال الدكتور ممدوح سلامة خبير الاقتصاد العالمي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": إن القانون الضريبي في بريطانيا يهدف إلى تحقيق العدالة بين المواطنين العاديين والأثرياء، وهو الأساس الذي يقوم عليه النظام العادل في المجتمعات التي تولي اهتماماً برفاهية مواطنيها".
وأضاف الدكتور سلامة أن الظروف المالية الصعبة التي تمر بها بريطانيا دفعتها إلى تعديل القانون الضريبي بشكل طفيف، بما يسمح بمراعاة الضرائب المفروضة على الأثرياء، في محاولة لجذبهم من جديد إلى البلاد. لكنه وصف هذا الإجراء بأنه حل مؤقت، مشيراً إلى أن الحل العادل والمستدام يكمن في تقليص بريطانيا لنفقاتها الحكومية.
وأكد أن خفض الإنفاق الحكومي يسهم في تقليل الاستدانة من البنوك، مع ضرورة وجود رقابة صارمة على حجم الإنفاق العام. كما أشار إلى أهمية السعي نحو جذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في القطاعات الصناعية التي تحتاج إلى تطوير، موضحاً أن جذب الاستثمارات وأموال الأثرياء يُعتبران عاملين حاسمين لاستقرار الاقتصاد البريطاني.
واختتم الدكتور سلامة حديثه بالقول: "إن العامل الأهم لتحسين الوضع الاقتصادي في بريطانيا هو ضبط حجم الإنفاق الحكومي بما يتماشى مع قدرتها الاقتصادية. وأضاف أن أي استقرار مالي طويل الأمد يتطلب توازنًا بين الإنفاق والاستدانة، لأن الاستمرار في الاقتراض سيؤدي على المدى البعيد إلى ارتفاع نسبة الديون مقارنة بالناتج الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة جداً حالياً.
ومع ذلك، يرى خبير الاقتصاد العالمي أن بريطانيا قادرة على تصحيح هذا المسار إذا تبنت سياسة اقتصادية حكيمة تعتمد على خفض الإنفاق وجذب الاستثمارات.
زيادة مدة قانون الإعادة المؤقتة لرؤوس الأموال
وفي حديثه، لموقع اقتصاد سكاي نيوز عربية قال علي حمودي الخبير الاقتصادي، المختص في الشأن البريطاني: "عندما سُئلت راشيل ريفز عن خبر مغادرة 10800 مليونير للمملكة المتحدة، قالت إن الحكومة ستجري تعديلاً على مشروع قانون المالية القادم، وذكرت أن حزب العمال سيجعل من الأسهل على غير المقيمين نقل الأموال إلى المملكة المتحدة، من خلال زيادة مدة قانون الإعادة المؤقتة لرؤوس الأموال، وعدم تخفيضها من معدلها الحالي الذي يبلغ 15 سنة".
لذا فإن قانون الإعادة المؤقتة مهم لاقتصاد المملكة المتحدة لأنه مصمم لتشجيع غير المقيمين على جلب أموالهم إلى المملكة المتحدة، وتشجيعهم على إنفاق واستثمار هذه الأموال فيها، بحسب حمودي، الذي يرى أن ما قالته ريفز كان جيداً بمعنى أنهم فهموا أن الرسالة يجب أن تكون أكثر إيجابية ويجب النظر إلى كل شيء من خلال عدسة النمو.
ومع ذلك، يرى الخبير الاقتصادي المختص بالشأن البريطاني أن الطريقة المجدية لوقف هذا النزوح هي الحفاظ على الإعفاء من ضريبة الميراث للصناديق الاستئمانية الخارجية وأيضاً عكس التغييرات المقترحة على إعفاء الممتلكات الزراعية والتجارية والتي تؤثر على المزارعين ورجال الأعمال.
وأضاف حمودي: "الضرر قد حدث بالفعل في كثير من النواحي، لذا فإن التعديل لن يفعل الكثير لتغيير الرسالة العامة لحزب العمال بشأن الضرائب في الوقت الحالي، لأن الأمر لا يتعلق الأمر فقط بغير المقيمين. فهناك ضريبة الميراث، وضريبة مكاسب رأس المال، وإعفاءات ضريبية لرجال الأعمال. لذا فالحزمة يجب أن تكون متكاملة".
عوامل أخرى لنزوح الأثرياء
وأكد الحاجة الملحة لجذب المزيد من أصحاب الملايين إلى المملكة المتحدة، وأضاف: "لا ننسى نزوح المليونيرات لم يكن مدفوعاً بزيادة الضرائب فقط، ولكن أيضا بالهيمنة المتزايدة للولايات المتحدة وآسيا في قطاع التكنولوجيا الفائقة وتضاؤل أهمية بورصة لندن و"الحالة" المتدهورة للنظام الصحي في المملكة المتحدة، وهذا هو السبب وراء مغادرة هؤلاء المليونيرات للعاصمة البريطانية إلى أماكن مثل باريس ودبي وأمستردام وموناكو وجنيف وسيدني وسنغافورة".
وفي حال عدم إدخال نظام ضريبي أكثر ودية وتشجيعاً لأصحاب الثروات، فلن تتوقف هجرة هؤلاء المليونيرات وكلما طال أمد تنفيذ أي تغييرات، كلما أصبح من الصعب إعادة أي منهم إلى المملكة المتحدة مرة أخرى، وفقاً لحمودي.