هل يهدد توقف الغاز الروسي جيوب المستهلكين الأوروبيين؟
23:55 - 02 يناير 2025في تحول جذري، أُغلقت صمامات الغاز الروسي المتدفقة إلى أوروبا عبر أوكرانيا، معلنة بذلك نهاية حقبة امتدت عقوداً، مما يهدد بتعقيد الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها القارة العجوز.
هذا التطور، الذي يأتي في ظل أزمة طاقة عالمية متصاعدة، يطرح تساؤلات حادة حول مستقبل الاقتصاد الأوروبي.
هل يمثل هذا التوقف ضربة قاصمة للاقتصاد الأوروبي، أم أنه بداية فصل جديد من التحديات والفرص؟ وكيف ستؤثر هذه الأزمة على جيوب المستهلكين الأوروبيين، الذين يعانون أصلاً من ارتفاع أسعار الطاقة؟
وتوقفت إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا عبر أوكرانيا الأربعاء في أول أيام العام الجديد مما يسدل الستار على هيمنة موسكو على الإمدادات في سوق الغاز الأوروبية لفترة طويلة، وتم إغلاق أقدم طريق لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، وهو خط أنابيب يعود تاريخه إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، في نهاية 2024 مع انتهاء اتفاقية عبور مدتها خمس سنوات بين روسيا وأوكرانيا.
وقال وزير الطاقة الأوكراني جيرمان جالوشينكو في بيان: "أوقفنا عبور الغاز الروسي. هذا حدث تاريخي. روسيا تخسر أسواقها، وستتكبد خسائر مالية. اتخذت أوروبا بالفعل قرار التخلي عن الغاز الروسي".
وبحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية، "يتعين على العديد من دول أوروبا الوسطى الآن البحث عن الغاز في مكان آخر، حيث أوقفت شركة غازبروم الروسية الإمدادات بعد انتهاء صلاحية اتفاقية النقل".
ويعني هذا التوقف أن دول أوروبا الوسطى التي اعتمدت على التدفقات ستضطر إلى الحصول على غاز أكثر تكلفة من مكان آخر، مما يزيد من الضغوط على الإمدادات في الوقت الذي تستنفد فيه المنطقة مخزونها الشتوي بأسرع وتيرة منذ سنوات.
وأوضح التقرير أنه "على الرغم من أن هذا المسار يمثل 5 بالمئة فقط من احتياجات أوروبا، إلا أن الدول لا تزال تعاني من تداعيات أزمة الطاقة التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية، إذ ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 50 بالمئة على أساس سنوي، وحصلت على دفعة في الأسابيع الأخيرة من الانقطاع الوشيك في الإمدادات. أصبح القارة الآن أكثر عرضة لتقلبات السوق حيث أصبحت أكثر اعتماداً على الغاز الطبيعي المسال العالمي".
وبالنسبة لروسيا، فإن فقدان أحد مساري أنابيب الغاز المتبقيين إلى أوروبا سيقلل الإيرادات بنحو 6 مليارات دولار سنوياً، وستفقد أوكرانيا أيضاً رسوم العبور وتتخلى عن موقعها الاستراتيجي الذي طال أمده كقناة للطاقة بأسعار معقولة للحلفاء الغربيين، بحسب تقرير الوكالة الأميركية.
"الانهيار الرمزي لعصر كامل"
قالت تاتيانا ميتروفا، الباحثة في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا: "إن إنهاء نقل الغاز ليس مجرد تعديل في سلسلة التوريد - إنه الانهيار الرمزي لعصر كامل".
وأضافت: "جزء كبير من شبكة خطوط أنابيب الغاز التي تم بناؤها في عهد الاتحاد السوفيتي، والتي كانت تجلب الغاز السيبيري إلى أوروبا، أصبح الآن مجرد أطلال لما كانت عليه سابقاً".
وفي حين لا يوجد خطر من حدوث نقص فوري في أوروبا، فقد يجعل التوقف عملية تخزين الغاز أكثر صعوبة قبل موسم التدفئة التالي.
وقد انخفضت مخزونات المنطقة بسرعة وتقل الآن عن 75 بالمئة من الملء، وفقاً لتقرير "بلومبرغ".
وكان من المتوقع وقف تدفقات الغاز في ظل الحرب التي بدأت في فبراير 2022.
وأصرت أوكرانيا على أنها لن تمدد الاتفاقية وسط الصراع العسكري.
وقال مصدر في القطاع إن غازبروم افترضت العام الماضي أن الغاز لن يمر عبر أوكرانيا، والذي يمثل ما يقرب من نصف إجمالي صادرات الغاز الروسية عبر خطوط أنابيب إلى أوروبا.
ولا تزال روسيا تصدر الغاز عبر خط أنابيب "ترك ستريم" في قاع البحر الأسود.
ويحتوي الخط على فرعين، أحدهما للسوق المحلية التركية والآخر لتزويد العملاء في وسط أوروبا، مثل المجر وصربيا، بالغاز.
من جانبها، قالت شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم في بيان على تليغرام: "بسبب رفض الجانب الأوكراني مرارا وبكل وضوح تجديد هذه الاتفاقيات، حُرمت غازبروم من القدرة الفنية والقانونية على توريد الغاز عبر الأراضي الأوكرانية اعتبارا من أول يناير 2025".
وعلى الرغم من دعوات بعض الدول الأوروبية بحظر إمدادات الغاز الطبيعي المسال من موسكو، فإن المنطقة تشتري كميات قياسية، حيث يهدد فقدان الغاز الروسي في جميع أنحاء أوروبا، والمنقول عبر خطوط الأنابيب برفع فواتير المنازل والصناعة مع سعيهم للتعافي من أسوأ أزمة معيشية منذ عقود.
وفي حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الدكتور ممدوح سلامة خبير النفط العالمي: "إن وقف إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا اعتباراً من الأول من يناير الجاري يُشكّل ضربة قاسمة للاتحاد الأوروبي. كان الأوروبيون يأملون في أن يوفر الغاز القادم من أذربيجان بديلاً للغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية، ولكن ذلك يبدو غير ممكن. أولاً، لأن أذربيجان غير قادرة على زيادة صادراتها من الغاز إلى مستويات تُلبي احتياجات الاتحاد الأوروبي، وثانياً، حتى لو تمكّنت أذربيجان من زيادة إمداداتها، فإن هذه الإمدادات ستكون أكثر كلفة مقارنة بالغاز الروسي الذي كان يُنقل عبر أوكرانيا".
وأضاف الدكتور سلامة: "سيواجه الاتحاد الأوروبي هذا الشتاء تحديات كبيرة، أبرزها إيجاد بدائل للغاز الروسي بأسعار مقبولة لا تُلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن هذا يبدو بعيد المنال، خصوصاً إذا كان الشتاء بارداً جداً".
تعميق الركود
الخيارات المتاحة أمام الاتحاد الأوروبي صعبة ومكلفة للغاية، وستؤدي إلى تعميق الركود الاقتصادي، بحسب سلامة، فعلى سبيل المثال، زيادة الاعتماد على الغاز السائل المستورد من الولايات المتحدة سيمثل عبئاً مالياً ضخماً، خاصة وأن هذه الواردات قد أثرت سلباً على الاقتصاد الأوروبي، مما حال دون تحقيق النمو المرتقب في عام 2024 والمقدر بـ0.5 بالمئة.
وأضاف أنه إذا استمرت أسعار الطاقة في الارتفاع، فإن ذلك قد يؤدي إلى انتكاسة اقتصادية شاملة، بحسب تعبيره.
وأشار الدكتور سلامة إلى أن "الاتحاد الأوروبي يمكنه اللجوء إلى شراء الغاز المسال من قطر أو السوق العالمية، لكنه سيواجه منافسة شديدة، خاصة من منطقة حوض المحيط الباسيفيكي، حيث تُعد الصين أكبر مستهلك للغاز السائل والغاز المنقول عبر الأنابيب. النتيجة النهائية في جميع السيناريوهات هي ارتفاع تكاليف الطاقة بالنسبة للمستهلكين والصناعة الأوروبية. ونلاحظ بالفعل أن ألمانيا، التي تُعتبر أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، تعاني من تراجع في قدرتها الصناعية، حيث بدأت العديد من الشركات الأوروبية تنقل عملياتها إلى الولايات المتحدة ودول أخرى تتمتع بأسعار طاقة أقل".
وختم خبير النفط العالمي بقوله: "مهما كان السيناريو، فإن الاتحاد الأوروبي سيدفع ثمناً باهظاً نتيجة فقدان الغاز الروسي عبر أوكرانيا. ويجب الإشارة هنا إلى أن الاتحاد الأوروبي أنفق مئات المليارات من الدولارات على تقديم مساعدات مالية وعسكرية لأوكرانيا، لكنه تلقى ضربتين من جانبها: الأولى من خلال إغلاق أوكرانيا لمسار صادرات الغاز الروسي، والثانية برفعها تكاليف عبور أي غاز عبر أراضيها، مما زاد من الأعباء الاقتصادية على الأوروبيين".
وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وضعت هدفاً سياسياً لإنهاء الوقود الأحفوري الروسي بحلول عام 2027، وقالت سابقاً إن نهاية العبور سيكون لها تأثير ضئيل على أسواق الطاقة الإقليمية.
وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية: "إن توقف التدفق عبر أوكرانيا في الأول من يناير هو الوضع المتوقع والاتحاد الأوروبي مستعد له". وقالت المفوضية، الذراع التنفيذي للاتحاد الأوروبي، إنها تعمل مع الدول الأعضاء منذ أكثر من عام للتحضير لمثل هذا السيناريو.
من جانبه قال مستشار الطاقة الدولي عامر الشوبكي في تصريح لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن وقف إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا يُعمّق الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الأوروبي، الذي يُظهر مؤشرات تراجع واضحة، بما في ذلك الاقتصادات الكبرى مثل الألماني والفرنسي والإيطالي. يعاني الاقتصاد الأوروبي بشكل عام من تباطؤ ملحوظ في النمو، وبالكاد يصل إلى 0.5 بالمئة عام 2024، وسط مخاطر متزايدة بالدخول في حالة ركود".
وأضاف الشوبكي: "رغم محاولات الاتحاد الأوروبي تقليل اعتماده على الغاز الروسي، فإنه لم يتمكن من الاستغناء الكامل عنه، خاصة بعد فقدانه لأهم ميزة كانت توفرها روسيا وهي إمدادات الطاقة الرخيصة عبر خطوط الأنابيب. تلك الخطوط تعرضت لانتكاسات كبيرة، بدءاً من تدمير خط 'نورد ستريم'، وتوقف خط 'يامال' عبر بيلاروسيا وبولندا، وأخيراً إيقاف الخط المار عبر أوكرانيا. لم يتبقَ سوى خط 'ترك ستريم' الذي يمر عبر البحر الأسود إلى تركيا ثم إلى الشبكة الأوروبية".
أما الخط المار عبر أوكرانيا، فكان يُعد شرياناً حيوياً لدول وسط أوروبا مثل هنغاريا والنمسا وسلوفينيا ومولدافيا وصربيا، التي لا تمتلك موانئ لاستيراد الغاز المسال، مما يضع هذه الدول في موقف صعب، بحسب تعبيره.
وأشار الشوبكي إلى أن "الغاز الروسي عبر الأنابيب لم يكن فقط أقل تكلفة، بل كان يُسهم أيضاً في ملء المخزونات الأوروبية بسرعة وكفاءة. وعلى الرغم من أن استقدام شحنات إضافية من الغاز الطبيعي المسال يمكن أن يُعوّض جزئياً هذا النقص، فإن التكلفة ستكون أعلى بكثير. وقد انعكس ذلك سريعاً على السوق، حيث ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا بنسبة 47 بالمئة خلال عام 2024، لتتجاوز 50 يورو لكل ميغاواط/ساعة، ومن المتوقع أن تستمر الأسعار في الارتفاع خلال الأيام المقبلة".
واختتم الشوبكي تصريحه قائلاً: "هذا الارتفاع في أسعار الغاز ينعكس بشكل مباشر على جيوب المستهلكين الأوروبيين، ويزيد من الضغوط على الصناعات الأوروبية، ما قد يؤدي إلى زعزعة ثقة المواطنين الأوروبيين بقادتهم في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة".