لماذا لم توقف العقوبات على روسيا الحرب في أوكرانيا؟
10:50 - 26 أغسطس 2025
تستمر روسيا في التحرك على الساحة الدولية بقوة، رغم العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة المفروضة عليها منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، فبينما يسعى الغرب لإجبار موسكو على إعادة حساباتها السياسية والعسكرية، فإنها تظهر قدرة ملحوظة على الصمود وإعادة التكيّف مع المتغيرات الاقتصادية.
تعيد موسكو رسم خريطة علاقاتها التجارية بعيداً عن دائرة النفوذ الغربي، مستفيدة من الشراكات مع دول مثل الصين والهند، وموسعة نطاق تواجدها في الأسواق الإفريقية واللاتينية، وهي استراتيجية تمنحها متنفساً حيوياً يحمي الاقتصاد من الانهيار المفاجئ، ويقلل من فاعلية العقوبات كأداة ضغط مباشرة.
لكن في المقابل، يواجه الاقتصاد الروسي تحديات داخلية متزايدة، تتعلق بقدرة الحكومة على الحفاظ على التوازن بين الإنفاق الدفاعي والاجتماعي وبين الاحتياجات الاقتصادية الأخرى. وبينما تُبقي موسكو على موقعها كلاعب عالمي، تبقى الضغوط المالية والاقتصادية حاضرة، لكنها لم تصل بعد إلى حد إجبارها على تغيير مسار الحرب.
في هذا السياق، تشير صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها، إلى أن روسيا - التي تعد وفقاً لبعض المقاييس الدولة الأكثر خضوعاً للعقوبات على وجه الأرض - لا تظهر أي إلحاح يذكر للقيام بما تريده الولايات المتحدة والدول الأوروبية: إنهاء حربها في أوكرانيا.
- منذ بدء الحرب في أوكرانيا في 2022 ، أدرجت الولايات المتحدة أكثر من 6000 فرد وشركة على صلة بالمجهود الحربي الروسي على قائمة العقوبات الرسمية.
- لضمان نجاح هذه المحظورات، يتعين على المؤسسات المالية التي تنقل الأموال عبر الحدود فحص المعاملات وقطع الأنشطة غير المشروعة. وإلا، فقد تواجه عقوبات صارمة من الولايات المتحدة، بما في ذلك الغرامات أو النفي إلى قائمة العقوبات.
- مع ذلك، نجحت روسيا في إدارة تجارة حدودية بمئات المليارات من الدولارات.
وجد تحليلٌ أجرته الصحيفة أن 8 من أكبر عشر تسويات لانتهاكات العقوبات العالمية منذ عام 2014 عندما فُرضت العقوبات لأول مرة على روسيا بسبب ضمها شبه جزيرة القرم، كانت ضد مؤسسات مالية. لكن قضيتين فقط من هذه القضايا شملت روسيا: إحداهما ضد شركة رأس مال استثماري أدارت أموالًا لأحد الأثرياء الروس الخاضعين للعقوبات، والأخرى ضد منصة بينانس لتداول العملات المشفرة. ولم تُغرَّم بينانس في المقام الأول لمساعدتها روسيا؛ بل سهّلت أيضاً الطريق المالي لدول أخرى تواجه عقوبات، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية وسوريا وكوبا.
أما بالنسبة لأكثر من 6000 كيان مدرجة على قائمة العقوبات الروسية، فإن معظمها أفراد وشركات وهمية صغيرة؛ وأقل من 30 منها شركات كبيرة مقرها خارج روسيا، وخمسة فقط من هذه الشركات هي شركات مالية.
ازدادت عملية تضييق الخناق على الشركات المالية التي تدعم آلة الحرب الروسية تعقيداً مع تطور الحرب في أوكرانيا. فبعد عزلتها عن معظم العالم الغربي، عززت روسيا علاقاتها مع الهند والصين، وهما اقتصادان كبيران يُشكلان شريان حياة اقتصادياً.
وينقل التقرير عن الباحث البارز في جامعة كولومبيا والمسؤول السابق في وزارة الخزانة الأميركية، إدوارد فيشمان، قوله: "هناك العديد من الشركات حول العالم التي انتهكت تهديدات العقوبات الثانوية". لكنه يشير لصعوبة التصعيد ضد دول مثل الصين.
إذا فُرضت عقوبات على بنوك صينية كبرى، فستتباطأ التجارة الدولية بشكل كبير. ولن تتمكن العديد من الشركات الأميركية من سداد ثمن البضائع للمصانع الصينية أو استلام مدفوعات صادراتها. وقد تتجمد سلاسل التوريد لجميع المنتجات، من الإلكترونيات إلى الأدوية، مما سيؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار على المستهلكين الأميركيين. وقد جعلت هذه الحسابات البنوك الصينية "غير خاضعة للعقوبات تقريباً"، وفقاً لمارتن تشورزيمبا، الزميل البارز في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
أداة استراتيجية
يقول المحلل الروسي، ديمتري بريجع، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
- العقوبات على روسيا لم تتوقف لأن الغرب لم يربطها حصراً بالحرب في أوكرانيا، بل جعلها أداة استراتيجية لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية والضغط على موسكو بشكل دائم.
- منذ 2014 والغرب يستعمل ورقة العقوبات كوسيلة طويلة الأمد، والهدف لم يكن مجرد ردع عسكري بل تقييد روسيا اقتصادياً ومنعها من لعب دور عالمي مستقل.
- العقوبات أصبحت جزء من معركة كسر الإرادات، حيث تراهن واشنطن وبروكسل على إنهاك الاقتصاد الروسي وعزل موسكو عن النظام المالي العالمي.
ويضيف: "لكن ما حدث أن روسيا طورت آليات بديلة: تعزيز التعامل بالعملات الوطنية، التوجه إلى البريكس، زيادة الشراكات مع الصين والهند وإيران، والانفتاح على أفريقيا وأميركا اللاتينية"، مشيراً إلى أن الغرب أراد أن يفرض حصاراً خانقاً، لكن النتيجة جاءت عكسية، فقد عززت موسكو الاكتفاء الذاتي في قطاعات أساسية كالزراعة والطاقة، وأصبحت أكثر قدرة على المناورة.
ورغم ذلك، يرى أن استمرار العقوبات يعكس أن الغرب يريد إطالة أمد الاستنزاف، بحيث تصبح الحرب الاقتصادية موازية للحرب العسكرية.
دولة كبرى
يقول الاستاذ في كلية موسكو العليا للاقتصاد، الدكتور رامي القليوبي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- العقوبات الاقتصادية لم تنجح تاريخياً في إيقاف دول صغيرة ومؤثرة مثل إيران وكوريا الشمالية والعراق في عهد صدام حسين، أو سوريا في عهد الأسد، أو ليبيا معمر القذافي عن المضي قدماً في سياساتها، بل أثبتت فشلها في تحقيق أهدافها.. فهل يمكن أن تفني العقوبات دولة كبرى كروسيا؟
- روسيا قوة عظمى، لا يمكن شطبها من الخريطة الاقتصادية والجيوسياسية العالمية.
- السنوات الثلاث الماضية أظهرت بوضوح أن هذا الأمر مستحيل.
ويضيف: "هذا هو جوهر الرهان الروسي: كلما ابتكر الغرب أدوات جديدة من العقوبات، قابلتها روسيا بمزيد من التطور والانفتاح على شراكات أوسع مع الدول غير الغربية".
وعلى الرغم من الصدمة الأولى التي أحدثتها العقوبات الغربية منذ اندلاع الحرب، سرعان ما أظهر الاقتصاد الروسي قدرة ملحوظة على الصمود وإعادة التكيّف.
وفي موازاة ذلك، برزت توجهات جديدة تعكس قدرة روسيا على إعادة رسم خريطة علاقاتها الاقتصادية. فقد كثفت تعاونها مع دول أخرى مثل الصين والهند، وعززت حضورها في الأسواق الأفريقية واللاتينية، ما وفّر لها متنفساً حيوياً خارج دائرة النفوذ الغربي. ومع توسع دائرة هذه الشراكات، بدا أن موسكو لا تكتفي بمجرد البقاء، بل تسعى إلى تثبيت موقعها كلاعب اقتصادي عالمي قادر على تجاوز العزلة التي حاول الغرب فرضها.
رياح غير مواتية
لكن مركز تحليل الدراسات الأوروبية، يشير إلى رياح غير مواتية بالنسبة للاقتصاد الروسي، فحتى الآن، تستطيع الحكومة الحفاظ على الإنفاق الدفاعي والاجتماعي، ولكنها قد تضطر إلى خفض الإنفاق في مجالات أخرى، وهو ما من شأنه أن يضعها على مسار خطير.
ووفق تقرير للمركز، فإن خفض الإنفاق أو إجراءات التقشف سيؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة الأجور، في وقتٍ تُثني فيه العقوبات وانخفاض أسعار النفط وتحديات حقوق الملكية الاستثمار الرأسمالي الخاص. ومن ثم قد لا يتعافى النمو، حتى مع انخفاض التضخم، واستحواذ الإنتاج العسكري على حصة متزايدة من الاقتصاد الروسي.
ومن ناحية أخرى، إذا لم تعمل الحكومة على خفض الدعم المالي، فهناك خطر عودة التضخم المرتفع.
وكان البنك المركزي الروسي قد أوضح أنه لا يزال يرى مخاطر في اتباع سياسة نقدية أكثر مرونة. وتشمل هذه المخاطر انخفاض أسعار النفط، والعوامل الجيوسياسية (وخاصةً العقوبات الغربية الإضافية)، والقرارات السياسية بزيادة الإنفاق. وأشار إلى أنه في حال اختلفت معايير ميزانية العام المقبل عن الاتفاقيات الحالية، فقد يضطر إلى إعادة النظر في نهجه في تخفيف السياسة النقدية.
تأثير العقوبات
الباحث في الاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- رغم أن العقوبات الاقتصادية كانت أداة رئيسية استخدمها الغرب للرد على الحرب في أوكرانيا منذ فبراير 2022، فإنها لم تؤدِّ إلى إنهاء الحرب أو تقليص التدخل الروسي بشكل حاسم.
- لكن يجب الاعتراف بأن العقوبات لم تكن بلا أثر؛ فالاقتصاد الروسي تأثر بالفعل، حيث تراجعت الاستثمارات الأجنبية، وفُرضت قيود على تصدير التكنولوجيا، وجُمِّدت أصول، كما تم إخراج روسيا من النظام المالي العالمي "سويفت" جزئياً. ومع ذلك، لم تؤدِّ هذه الإجراءات إلى انهيار اقتصادي يُجبر موسكو على إعادة حساباتها السياسية والعسكرية.
- أحد الأسباب الرئيسية هو قدرة روسيا على التكيّف؛ فالحكومة الروسية أعادت توجيه صادراتها من الطاقة نحو أسواق بديلة مثل الصين والهند، ما ساعدها في الحفاظ على تدفقات نقدية مهمة. كما استفادت من أسعار النفط والغاز المرتفعة لتعويض بعض الخسائر.
- علاوة على ذلك، ساعدت الخبرة السابقة من عقوبات 2014 في تطوير أدوات اقتصادية للتعامل مع الحصار، مثل تعزيز الاكتفاء الذاتي وتشجيع الصناعة المحلية.
ويضيف: طبيعة النظام السياسي في روسيا تعزز من قدرته على امتصاص الصدمات؛ ففي ظل حكم مركزي قوي وتحكّم إعلامي محكم، يمكن تقليص تداعيات العقوبات على الرأي العام. فالمجتمع الروسي لا يتمتع بنفس القدرة على الضغط على القيادة كما هو الحال في الأنظمة الغربية، ما يقلل من فعالية العقوبات كأداة لتغيير السياسات.
ويوضح الديب أن العقوبات لم تكن شاملة من جميع الأطراف الدولية. ففي حين تبنّت الدول الغربية سياسة صارمة، ظلت دول مؤثرة مثل الصين والهند وتركيا وعدد من دول أفريقيا وأميركا اللاتينية تحافظ على علاقاتها التجارية مع روسيا. وهذا التباين أضعف تأثير العقوبات، وأتاح لموسكو خيارات بديلة للمناورة.
ويعتقد بأنه "نادراً ما تؤدي العقوبات وحدها إلى نتائج سياسية فورية، خاصة عندما تكون الرهانات الجيوسياسية عالية.. وبالنسبة للقيادة الروسية، تمثل الحرب جزءاً من صراع أوسع مع الغرب، ولذلك فهي مستعدة لتحمل تكاليف اقتصادية مقابل تحقيق أهداف استراتيجية طويلة الأمد".
وفي المحصلة، فإن فشل العقوبات في وقف الحرب لا يعني أنها غير مجدية، بل يكشف عن حدودها كأداة سياسية عندما لا تُرافق باستراتيجيات ميدانية ودبلوماسية متكاملة. قد تضعف العقوبات قدرة روسيا على المدى الطويل، لكنها وحدها ليست كافية لفرض تغيير سريع في السلوك العسكري أو السياسي لدولة مستعدة للمواجهة ومحصَّنة نسبيًا داخلياً.