هل ينتهي "تنمر" التجارة العالمية؟ لاغارد تحذر من بكين
02:51 - 12 يونيو 2025من قلب العاصمة الصينية بكين، أطلقت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، تحذيراً صريحاً للمجتمع الدولي بشأن مستقبل التجارة العالمية. وفي خطاب مؤثر ألقته في بنك الشعب الصيني، أكدت لاغارد على أن نهج "التنمّر" في التجارة لن يحقق أي مكاسب مستدامة على المدى الطويل، وأن السياسات التجارية القسرية ليست سوى حلول واهية لتوترات عالمية آخذة في التصاعد.
هذه التصريحات تأتي في وقت تشهد فيه العلاقات التجارية الدولية تقلبات حادة، وتتزايد فيه الدعوات الحمائية، مما يضع أسس الازدهار العالمي على المحك. فهل تحمل هذه التحذيرات في طياتها رؤية لمرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي؟ وهل تدرك القوى الكبرى أن السياسات القسرية ليست طريقاً مستداماً لحل التوترات التجارية التي تؤثر على الجميع؟
الدعوة لحلول تعاونية
تجاوزت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، مجرد التحذير من تداعيات "السياسات القسرية" في التجارة العالمية، لتؤكد أن مثل هذا النهج لا يقدم أي ميزة مستدامة على المدى الطويل. وقد أبرزت لاغارد، التي تحمل خلفية واسعة في مجال التجارة الدولية بعد توليها منصب وزيرة التجارة الفرنسية في بدايات مسيرتها، أن السياسات التجارية القسرية ليست حلاً مستداماً للتوترات التجارية الراهنة، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
هذه التصريحات، تزامنت مع التوصل إلى اتفاق مبدئي بين الولايات المتحدة والصين، يهدف إلى تخفيف حدة التوترات التجارية التي تصاعدت بشكل غير مسبوق، مدفوعة بشكل أساسي بالتعريفات الجمركية المتقلبة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وشددت لاغارد على أن الحمائية، حتى لو ادعت معالجة الاختلالات، فإنها لا تنجح في حل أسبابها الجذرية، بل تعمل على تقويض أسس الازدهار العالمي. وأشارت إلى أن هذا الخطر أصبح أكبر من أي وقت مضى، خاصة مع الاندماج العميق للدول عبر سلاسل التوريد العالمية، في ظل تراجع التوافق الجيوسياسي الذي كان يميز الحقبة الماضية. وحذرت صراحة من أن "السياسات التجارية القسرية من المرجح أن تثير أعمالاً انتقامية وتؤدي إلى نتائج مدمرة للطرفين.
وأوضح التقرير أنه على الرغم من أنها لم تذكر اسم ترامب بشكل مباشر في خطابها، إلا أن لاغارد، التي قادت صندوق النقد الدولي خلال معظم فترة ولايته الأولى، لمحت إلى المخاطر المحتملة لعودته إلى البيت الأبيض، بما في ذلك فرض رسوم جمركية على أوروبا. وكانت قد صرحت مؤخراً بأن مثل هذه الرسوم الجمركية ستغير التجارة إلى الأبد. ودعت لاغارد إلى تبني حلول تعاونية للحفاظ على الازدهار، حتى في مواجهة التحديات الجيوسياسية، مؤكدة على مسؤولية كل من الدول ذات الفائض والعجز في المساهمة بفعالية.
وفي سياق متصل، سلطت مفاوضات التجارة الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين في لندن الضوء على الدور المتنامي لضوابط التصدير في حروب التجارة الحديثة. فالوصول إلى المعادن النادرة أو الرقائق الدقيقة يمكن أن يمنح اقتصاداً ميزة تنافسية كبيرة، بحسب تقرير الوكالة الأميركية.
وأشارت لاغارد إلى أن الصين تسيطر على جزء كبير من الإمدادات العالمية للمواد الخام الحيوية في صناعات متقدمة مثل السيارات الكهربائية، الليزر، والهواتف المحمولة. وفي هذا الصدد، أكدت أن "درجة معينة من تقليل المخاطر ستبقى قائمة"، وذلك بسبب اعتبارات الأمن القومي والدروس المستفادة من جائحة كورونا، مشددة على أن "قليلاً من الدول مستعدة للبقاء معتمدة على الآخرين في الصناعات الاستراتيجية".
مظاهر "التنمر" في التجارة العالمية
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي علي حمودي: "السؤال الأهم هو متى ينتهي عصر (تنمر) التجارة العالمية والتوجه نحو نظام أكثر عدالة واستدامة؟، فقد شهدت التجارة العالمية على مدى العقود الماضية تحولات جذرية، لكنها لم تخلُ من ممارسات (تنمر) من قبل بعض القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة والصين، مما أثر سلباً على الدول النامية والاقتصادات الصغيرة".
وتحدث حمودي عن مظاهر "التنمر" في التجارة العالمية وفقاً لمايلي:
- الحمائية المقنعة: تتجلى في فرض تعريفات جمركية غير معلنة، أو وضع معايير صارمة للمنتجات المستوردة يصعب على الدول النامية تلبيتها.
- شروط الإقراض المجحفة: تفرضها بعض الدول الكبرى أو المؤسسات المالية الدولية على الدول النامية، مما يزيد من ديونها ويقيد خياراتها الاقتصادية.
- الاستغلال غير العادل للموارد: حيث تستفيد الشركات الكبرى من ضعف القوانين البيئية والعمالية في الدول النامية لاستغلال الموارد الطبيعية والعمالة الرخيصة.
- الحروب التجارية: تشنها الدول الكبرى ضد بعضها البعض، مما يؤثر سلباً على سلاسل الإمداد العالمية ويضر بالاقتصادات الأصغر.
- الضغط السياسي: تستخدمه بعض الدول الكبرى للتأثير على قرارات الدول الأخرى في مجال التجارة والاستثمار.
وأوضح أن "استمرار ممارسات التنمر في التجارة العالمية له آثار سلبية على النمو الاقتصادي العالمي حيث يعيق التنمية في الدول النامية ويقلل من فرص التجارة والاستثمار المتبادل، وكذلك على الاستقرار السياسي حيث يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وزيادة التوترات بين الدول، فضلاً عن تأثيره على البيئة حيث يشجع على استغلال الموارد الطبيعية بشكل غير مستدام".
متى يمكن أن نتوقع نهاية هذا العصر؟
الخبير الاقتصادي حمودي يجيب على هذا التساؤل بقوله: "لا يمكن تحديد موعد دقيق لنهاية عصر (تنمر) التجارة العالمية، لكن هناك عدة عوامل يمكن أن تساهم في تسريع هذه العملية وهي:
- صعود قوى اقتصادية جديدة: يمكن لصعود قوى اقتصادية جديدة، مثل الهند أن يغير موازين القوى في التجارة العالمية ويقلل من هيمنة القوى الكبرى التقليدية.
- تزايد الوعي بأهمية التجارة العادلة: يتزايد الوعي لدى المستهلكين والشركات بأهمية التجارة العادلة والمستدامة، مما يشجع على تبني ممارسات تجارية أكثر مسؤولية.
- تعزيز التعاون الدولي: يمكن لتعزيز التعاون الدولي، من خلال منظمات مثل منظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة، أن يساهم في وضع قواعد أكثر عدالة للتجارة العالمية وفرضها على جميع الأطراف.
- تطوير التكنولوجيا: يمكن لتطوير التكنولوجيا، مثل الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين، أن يساهم في زيادة الشفافية في سلاسل الإمداد وتسهيل تتبع المنتجات ومراقبة ظروف إنتاجها.
وأشار إلى أن الشروط اللازمة لبناء نظام تجاري أكثر عدالة واستدامة تتجلى في:
- قواعد تجارية عادلة: يجب أن تكون القواعد التجارية عادلة وشفافة، وتراعي مصالح جميع الدول، وخاصةً النامية.
- آليات إنفاذ قوية: يجب أن تكون هناك آليات قوية لإنفاذ القواعد التجارية ومعاقبة المخالفين.
- دعم الدول النامية: يجب على الدول المتقدمة تقديم الدعم المالي والفني للدول النامية لمساعدتها على الاندماج في النظام التجاري العالمي بشكل فعال.
- التركيز على الاستدامة: يجب أن تكون التجارة العالمية مستدامة بيئياً واجتماعياً، وأن تراعي حقوق العمال وتحمي البيئة.
- تعزيز الشفافية: يجب زيادة الشفافية في سلاسل الإمداد وتسهيل تتبع المنتجات ومراقبة ظروف إنتاجها.
واختتم حمودي بقوله: "إن نهاية عصر (تنمر) التجارة العالمية ليست حتمية، ولكنها ممكنة إذا عملت جميع الأطراف معاً لبناء نظام تجاري أكثر عدالة واستدامة. يتطلب ذلك تغييراً في العقليات والممارسات التجارية، وتعزيز التعاون الدولي، وتبني تقنيات جديدة تزيد من الشفافية وتسهل تتبع المنتجات ومراقبة ظروف إنتاجها. إن بناء هذا النظام الجديد ليس فقط ضرورياً لتحقيق النمو الاقتصادي العالمي المستدام، بل هو أيضاً ضروري لتحقيق السلام والاستقرار في العالم".
مفترق طرق
بدوره، قال الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاتي نيوز عربية": "تحذير لاغارد يُنذر بمفترق طرق في التجارة العالمية ويُعدّ تحذيرها من بكين أكثر من مجرد نقد دبلوماسي، بل هو إشارة اقتصادية في الوقت المناسب إلى أن النظام التجاري العالمي يقف عند منعطف خطير. تُبرز تصريحاتها، الصادرة من داخل الإطار الرمزي للبنك المركزي الصيني، قلقاً متزايداً لدى محافظي البنوك المركزية والمؤسسات متعددة الجنسيات والمستثمرين العالميين على حد سواء: من أن التجارة تُستخدَم كسلاح بشكل متزايد، وأن هذه الاستراتيجية بدأت تؤثر في الاقتصاد العالمي ".
وأوضح القمزي أنه منذ يناير 2025، تصاعدت عدة بؤر توتر وفقاً لمايلي:
- أعادت الولايات المتحدة إحياء تهديداتها بفرض رسوم جمركية على المركبات الكهربائية الصينية والمعادن الأساسية.
- يُنهي الاتحاد الأوروبي، تحت ضغط سياسي من دول أعضاء رئيسية، التحقيقات في الدعم الصيني ويُعدّ تدابير مضادة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا الخضراء.
- قامت الصين، بدورها، بتقييد صادرات المدخلات الاستراتيجية، مثل الغاليوم والجرافيت، وهي مواد حيوية للصناعات الغربية.
وتمثل هذه الإجراءات الانتقامية المتبادلة السياسات القسرية التي أشارت إليها لاغارد بالضبط، وقد بدأت البيانات تعكس حجم الضرر. وقد رُفعت توقعات منظمة التجارة العالمية لنمو حجم التجارة العالمية في عام 2025 إلى 1.7 بالمئة"، مشيرةً إلى "التشرذم المستمر والتشوهات الناجمة عن السياسات". كما يتعثر الإنفاق الرأسمالي في مشاريع التصنيع العابرة للحدود، حيث تعيد الشركات متعددة الجنسيات النظر في استراتيجيات سلسلة التوريد طويلة الأجل في ظل عدم القدرة على التنبؤ باللوائح التنظيمية، وفقاً للقمزي.
وأضاف الخبير الاقتصادي القمزي: "من منظور اقتصاديات الأعمال، قد تُحقق التدابير التجارية القسرية مكاسب سياسية قصيرة الأجل، لكنها تُؤدي إلى انعدام كفاءة السوق على المدى الطويل. فهي تُقوّض الثقة، وتزيد من تكاليف المعاملات، وتُعطّل القدرة على التنبؤ اللازمة للاستثمار. يتكيف القطاع الخاص بالفعل: تنويع سلاسل التوريد بعيداً عن المناطق المتقلبة سياسياً (ما يسمى باستراتيجية "الصين +1")، والاستثمار في التكتلات التجارية الإقليمية مثل الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) أو منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية".
ويرى أن خطاب لاغارد يدعو العالم ليس فقط إلى رفض التنمر الاقتصادي، ولكن أيضاً إلى إعادة تصور هيكل التجارة العالمية. حيث تتوافق رؤيتها مع الإدراك الأوسع لما بعد الوباء بأن التجارة المفتوحة يجب أن تكون مرنة وقائمة على القواعد وشاملة. وأضاف: "ولتحقيق ذلك، يجب أن تتحول القيادة الاقتصادية العالمية من المواجهة إلى التنسيق. وإلا، فإن التكلفة الاقتصادية للإكراه - تباطؤ النمو، وسوء تخصيص رأس المال، وتعميق الانقسامات الجيوسياسية - ستفوق بكثير أي ميزة استراتيجية".