الحروب التجارية تعزز تقديرات قاتمة لاقتصادات الجنوب العالمي
04:37 - 12 يونيو 2025
تقف الدول النامية على خط نار الحرب التجارية، رغم أنها لم تُطلق رصاصة واحدة في تلك الحرب المستعرة، فبينما تتسابق القوى الكبرى على فرض الرسوم والقيود، تدفع الاقتصادات الضعيفة ثمناً باهظاً نتيجة تباطؤ التجارة العالمية، وتقلّص الاستثمارات، واضطراب سلاسل التوريد.
في هذا السياق، تأتي تقديرات البنك الدولي لتدق ناقوس الخطر بشأن تباطؤ النمو في الأسواق الناشئة وتراجع دخل الفرد، وسط تحذيرات من أن العولمة نفسها باتت في مهب الريح.
التقرير الأخير الصادر عن البنك يرصد تداعيات موجة الحمائية التي تقودها واشنطن، ويكشف كيف تحولت الحروب التجارية من أدوات ضغط بين الكبار إلى أزمات شاملة تُهدد الاستقرار الاقتصادي للدول النامية، وتضعها أمام معضلات معقدة تتطلب استراتيجيات طويلة المدى لتفادي الانزلاق نحو أزمات تنموية عميقة.
تقديرات البنك الدولي
- توقع البنك الدولي أن تؤدي الحرب التجارية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة إلى تباطؤ النمو في ما يقرب من ثلثي الاقتصادات النامية هذا العام.
- حذر البنك من أن العولمة التي دفعت إلى "المعجزة الاقتصادية" في العديد من البلدان قد تحولت إلى الاتجاه المعاكس.
- من المتوقع أن تشهد البلدان الناشئة والنامية نمواً بنسبة 3.8 بالمئة هذا العام - بانخفاض عن 4.2 بالمئة في عام 2024، وفقاً لأحدث توقعات البنك الدولي الاقتصادية، مما يدفع وتيرة التوسع إلى أكثر من نقطة مئوية أقل من المعدل المتوسط في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
- من المتوقع أن يبلغ نمو دخل الفرد 2.9 بالمئة في البلدان النامية هذا العام، وهو ما يقل بأكثر من نقطة مئوية عن المتوسط بين عامي 2000 و2019.
- وفقاً للتوقعات، سيكون النمو العالمي الإجمالي هو الأبطأ منذ عام 2008، باستثناء فترات الركود.
يُسلّط تقرير البنك الدولي الضوء على الضرر الذي ألحقه الهجوم الذي قاده ترامب على التجارة العالمية بالدول التي كانت من بين أكبر المستفيدين من ازدياد التكامل العالمي في العقود الأخيرة. وتوقع البنك الدولي تباطؤ نمو التجارة العالمية في السلع والخدمات بشكل حاد في عام 2025 ليصل إلى 1.8 بالمئة، مقارنةً بـ 3.4 بالمئة سابقًا.
ولقد تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الدول النامية أربع مرات تقريباً خلال نصف القرن الماضي، مما أدى إلى انتشال أكثر من مليار شخص من براثن الفقر المدقع. لكن هذا التحول أصبح الآن في خطر، إذ تجد الدول النامية نفسها "على خط المواجهة في صراع تجاري عالمي"، وفقاً للبنك الدولي.
وبحسب تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز"، فقد حذر كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، إندرميت جيل، من أن "العالم النامي خارج آسيا أصبح منطقة خالية من التنمية".
وأضاف أن "النمو في الاقتصادات النامية انخفض بشكل حاد على مدى ثلاثة عقود - من 6 بالمئة سنويا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى 5 بالمئة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إلى أقل من 4 بالمئة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين". ومما يزيد الضغوط انخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلدان الناشئة والنامية إلى النصف مقارنة بذروتها في عام 2008.
- حذر البنك الدولي من أن "المخاطر السلبية" التي تهدد التوقعات لا تزال سائدة، ومن بينها المزيد من تصعيد الحواجز التجارية، واستمرار حالة عدم اليقين السياسي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية.
- يعتقد البنك الآن أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الدول مرتفعة الدخل سيظل قريباً مما كان متوقعًا قبل جائحة كوفيد-19، بينما ستكون الدول النامية أسوأ حالًا بنسبة 6 بالمئة.
- باستثناء الصين، قال البنك: "قد تستغرق هذه الاقتصادات حوالي عقدين من الزمن لتعويض الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها في عشرينيات القرن الحادي والعشرين".
- ووفق البنك الدولي، فإن "التعاون العالمي ضروري لاستعادة بيئة تجارية عالمية أكثر استقرارا وشفافية وتوسيع نطاق الدعم للدول الضعيفة التي تعاني من الصراعات وأعباء الديون وتغير المناخ".
تداعيات واسعة النطاق
وتعليقاً على تلك التقديرات، يقول استاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- في ظل التوترات العالمية المتزايدة، أصبحت الحروب التجارية بين القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، واقعاً له تبعات اقتصادية تتجاوز أطراف النزاع المباشر.
- بينما تنشغل هذه القوى في فرض الرسوم الجمركية والعقوبات الاقتصادية المتبادلة، تقع الدول النامية ضحية غير مباشرة لهذه الصراعات، حيث تتأثر بشكل كبير ومتعدد الأبعاد.
من بين تلك الأبعاد ما يرتبط بـ "تراجع الصادرات وتقلص الأسواق"، وهو ما يشير إليه الإدريسي بقوله: "تعتمد العديد من الدول النامية على تصدير منتجاتها الأولية أو الصناعية إلى الأسواق العالمية، وخاصة إلى الدول الكبرى. وعندما تنشب حروب تجارية، يتم فرض قيود جمركية تؤدي إلى انخفاض الطلب العالمي، مما يصيب صادرات الدول النامية بالركود. كما أن هذه الدول تتأثر إذا كانت جزءاً من سلاسل التوريد العالمية، حيث يؤدي النزاع التجاري إلى تعطيل الإنتاج وتراجع الطلب على مكوناتها الصناعية".
كما يتحدث أيضاً عن "انخفاض الاستثمارات الأجنبية"، في وقت تخلق فيه الحروب التجارية مناخاً من عدم الاستقرار والغموض في الاقتصاد العالمي. وهذا الجو السلبي يدفع المستثمرين للبحث عن ملاذات أكثر أماناً، وتكون الدول النامية - التي تُعتبر بطبيعتها أكثر هشاشة - الأقل حظًا في جذب الاستثمارات. وينتج عن ذلك تباطؤ في النمو الاقتصادي، وتأخر في تنفيذ مشاريع التنمية والبنية التحتية.
كما يُبرز في السياق ذاته الضغوطات المرتبطة بـ "اضطراب سلاسل التوريد العالمية"، ذلك أن الدول النامية تلعب دوراً مهماً في سلاسل التوريد الدولية، خاصة في الصناعات التحويلية والإلكترونيات والمنسوجات وغير ذلك. ومع حال تصاعد الحروب التجارية، فإن الشركات متعددة الجنسيات تعيد ترتيب سلاسل التوريد أو تُقلّص من إنتاجها، مما يؤثر سلباً على التشغيل والإنتاج في هذه الدول، ويؤدي إلى خسارة وظائف وزيادة نسب البطالة.
وينبه في السياق نفسه إلى "تقلب أسعار السلع الأساسية"، بقوله:
- تتسبب الحروب التجارية في تقلبات غير متوقعة بأسعار السلع العالمية، مثل النفط والمعادن والمنتجات الزراعية.
- الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على تصدير هذه السلع تتعرض لخسائر كبيرة مع انخفاض أسعارها. وفي المقابل، الدول المستوردة تتكبد تكاليف إضافية إذا ارتفعت الأسعار، ما يضغط على ميزان المدفوعات ويزيد من عجز الموازنة.
- بسبب القيود التجارية، قد ترتفع أسعار السلع المستوردة، لا سيما التكنولوجيا، الآلات، والمستلزمات الصناعية. وهذا يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج، ما يُترجم في النهاية إلى زيادة أسعار السلع النهائية للمستهلك، وبالتالي تفاقم معدلات التضخم، خصوصاً في الدول التي تعاني أصلاً من ضعف في عملاتها المحلية.
ويختتم الإدريسي تصريحاته قائلاً: رغم أن الحروب التجارية تُخاض بين الدول الكبرى، فإن تداعياتها تمتد لتطال الدول النامية بشكل حاد. فهذه الدول، التي تسعى للنمو والاستقرار، تجد نفسها في مواجهة تحديات اقتصادية مضاعفة نتيجة لانخفاض الصادرات، وتقلص الاستثمارات، واضطراب الأسواق العالمية. لذا، من الضروري أن تعمل الدول النامية على تنويع اقتصاداتها، وتعزيز السوق الداخلية، والبحث عن شراكات بديلة، حتى تتمكن من الصمود أمام عواصف النزاعات التجارية العالمية.
وفرضت الولايات المتحدة هذا العام رسومًا جمركية شاملة بنسبة 10 بالمئة على الواردات و50 بالمئة على واردات الصلب والألومنيوم. كما هددت بفرض رسوم جمركية "متبادلة" على عشرات الشركاء التجاريين، ورفعت الرسوم الجمركية على الواردات الصينية إلى 145 بالمئة قبل أن تخفضها لإفساح المجال أمام مفاوضات تجارية.
وسينتهي تعليق ترامب للرسوم الجمركية لمدة 90 يومًا بمناسبة "يوم التحرير" في التاسع من يوليو. وقد اجتمعت الدول مع إدارة ترامب لإعادة التفاوض على اتفاقيات التجارة الحالية في محاولة لتجنب الرسوم الجمركية الباهظة المقترحة على سلعها.
ويشير تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن تلك الرسوم الجمركية دفعت متوسط معدل التعريفات الفعلي في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى له منذ قرن من الزمان.
ويفيد التقرير بأن البنك الدولي أصدر توقعاته الجديدة بالتزامن مع انعقاد اليوم الثاني من محادثات التجارة بين الولايات المتحدة والصين في لندن، منبهاً إلى أنه في الأشهر الأخيرة، فرض كلٌّ من أكبر اقتصادين في العالم ضوابط تصديرية، مما حدّ من وصول الآخر إلى مجموعة واسعة من المنتجات الضرورية للتطبيقات التكنولوجية المتقدمة والعسكرية.
ويُقدّر البنك الدولي أنه في حال خفض معدلات التعريفات الجمركية العالمية إلى النصف، سيزداد النمو العالمي بمقدار 0.2 نقطة مئوية خلال العامين المقبلين. ويؤكد البنك على ضرورة قيام الدول النامية، التي تفرض بعضاً من أعلى التعريفات الجمركية في العالم، بخفض حواجزها التجارية لتحفيز النمو الاقتصادي.
وانضم البنك الدولي إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في خفض توقعات الناتج المحلي الإجمالي. وتتوقع المنظمة الآن نموًا بنسبة 1.6 بالمئة في الولايات المتحدة عام 2025 بدلًا من 2.6 بالمئة.
عدم اليقين
وفي السياق، تُشير تجارب السنوات الأخيرة إلى أن الحروب التجارية تُعيد تشكيل خريطة التدفقات الاستثمارية، حيث تميل رؤوس الأموال إلى البحث عن ملاذات أكثر استقراراً، ما يحرم الاقتصادات النامية من فرص التمويل والنمو. كما أن حالة عدم اليقين الناتجة عن السياسات الحمائية تُضعف ثقة المستثمرين، وتدفع البنوك المركزية في تلك الدول إلى اتخاذ قرارات دفاعية قد لا تُحقق الأثر المطلوب على المدى الطويل.
هذا ما يؤكده خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، والذي يقول في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- تعد الحروب التجارية بين القوى الكبرى كالصين والولايات المتحدة عامل ضغط إضافي على الاقتصادات الهشة في الدول النامية حيث تؤثر سلبا على صادراتها وعملاتها وسلاسل التوريد.
- على سبيل المثال، تبرز الحرب التجارية السابقة بين الولايات المتحدة والصين بين عامي 2018 و2020 جانباً من التأثيرات المباشرة.
- تتحمل الدول النامية تكلفة مزدوجة، مع اضطراب التجارة العالمية وتقلبات مالية تؤثر على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
- الحروب التجارية لا تقتصر أضرارها على أطرافها المباشرة بل تمتد لتقوض نمو الدول النامية وتزيد من هشاشتها الاقتصادية.
وفي ظل تفاقم التوترات الجيوسياسية والاقتصادية، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة صياغة قواعد التجارة العالمية بطريقة تُراعي مصالح الدول النامية وتقلّص من هشاشتها أمام صدمات الأسواق، ذلك أن استمرار الحرب التجارية بين القوى الكبرى دون ضوابط قد يُهدد النظام المالي الدولي، ويُعزز الانقسام الاقتصادي بين شمال غني وجنوب يعاني من الركود والتبعية.
تحديات أكثر صعوبة
والشهر الماضي، قالت النائب الأول لمدير عام صندوق النقد الدولي، جيتا جوبيناث، لصحيفة فايننشال تايمز إن الاقتصادات الناشئة تواجه تحدياً سياسياً أكثر صعوبة مما واجهته خلال أزمة كوفيد-19 قبل خمس سنوات، نظرًا للتأثير غير المتوقع للرسوم الجمركية على اقتصاداتها وخطر تدفقات رأس المال المعاكسة.
ورغم التحذيرات، يشهد المستثمرون ارتفاعا في الأسواق الناشئة الأكبر حجما هذا العام ردا على ضعف الدولار الأميركي والرهانات على إلغاء أسوأ التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب.
وبحسب تقرير الصحيفة، فإنه رغم التوقعات العالمية القاتمة، فإن العديد من الاقتصادات النامية نجحت أيضا في بناء "أساسيات قوية" بعد سنوات من إصلاح أوضاعها المالية منذ انخفاض أسعار النفط في عام 2015 وصدمات أخرى، وفقا لما قاله رئيس ديون الأسواق الناشئة في بي إن بي باريبا لإدارة الأصول، علاء بوشهري.