كيف تهدد الرسوم الجمركية أكبر اقتصاد في أوروبا؟
03:49 - 09 أبريل 2025
بينما تستعد ألمانيا لحقبة سياسية واقتصادية جديدة، تعود السياسات الحمائية التجارية في الولايات المتحدة لتتصدر المشهد العالمي، مع تهديدات مباشرة من واشنطن بإعادة فرض رسوم جمركية على الصادرات الأوروبية.
في قلب هذا اللغط يقف الاقتصاد الألماني، المثقل أصلاً بأعباء الركود وتراجع التنافسية، أمام تحدٍ وجودي قد يعيد تشكيل موقعه في النظام الاقتصادي العالمي.
في هذا السياق، حذر المستشار الألماني المنتظر، فريدريش ميرز، من التأثير "الدرامي" للرسوم الجمركية الأميركية على الأسواق العالمية وكيفية تأثير التعرفات على بلاده، وذلك في أول تعليقات له منذ كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن رسوم جمركية شاملة ضد الاتحاد الأوروبي.
وقال لرويترز يوم الاثنين: "إن الوضع في أسواق الأسهم والسندات العالمية حرج، ويُنذر بمزيد من التدهور (..)لذلك، بات من المُلحّ أكثر من أي وقت مضى أن تستعيد ألمانيا قدرتها التنافسية الدولية في أسرع وقت ممكن".
ويشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، إلى أن الرسوم الجمركية البالغة 20 بالمئة على جميع الصادرات الأوروبية تأتي في وقت تواجه فيه ألمانيا تحديات سياسية واقتصادية حادة، وتهدد بمحو أي مكاسب من حملة الإنفاق التي أعلن عنها ميرز بقيمة تريليون يورو لتعزيز صناعة الدفاع والبنية الأساسية المتقادمة في البلاد.
- يعتمد أكبر اقتصاد في منطقة اليورو على الصادرات إلى الولايات المتحدة بنسبة 4 بالمئة تقريباً من ناتجه المحلي الإجمالي، أي أكثر من فرنسا أو إيطاليا.
- الاقتصاد الألماني، ظل راكدًا لمدة ثلاث سنوات، متأثراً بارتفاع تكاليف الطاقة، وانخفاض الطلب على السلع الألمانية في الصين، والمنافسة الشرسة من المنافسين الصينيين.
- بحسب تقديرات معهد كولونيا للأبحاث الاقتصادية، فإن إجمالي الضرر الاقتصادي الذي سيلحق بالاقتصاد الألماني خلال فترة ولاية ترامب الممتدة لأربع سنوات قد يصل إلى 200 مليار يورو، مما سيؤدي إلى انخفاض مستوى الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1.5 نقطة مئوية في عام 2028. وتمثل الولايات المتحدة واحدة من كل عشر صادرات ألمانية.
من برلين، يقول الخبير الاقتصادي، ناجح العبيدي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- حرب ترامب الجمركية أثارت حالة من الهلع في سوق المال الألمانية، حيث مني مؤشر داكس في الأيام القليلة الماضية بخسائر قياسية (قبل أن يرتفع مؤخراً، حيث سجل نمواً بنحو 2.5 بالمئة في تعاملات الثلاثاء).
- الخسائر التي مُني بها المؤشر بعد فرض الرسوم الجمركية كانت بشكل أكبر من نصيب الشركات المصدرة، لا سيما شركات صناعة السيارات.
- في هذا السياق حذر وزير المالية في الحكومة الألمانية المنتهية ولايتها يورغ كوكيس من أن دخول الرسوم الجمركية العقابية حيز التنفيذ قد يؤدي إلى انهيار غير مسبوق في الصادرات الألمانية إلى السوق الأميركية بنسبة 15 بالمئة. وهذا ما ينذر بدخول الاقتصاد الألماني في مرحلة كساد، لا سيما وأن الصادرات تعتبر المحرك الرئيسي للنمو في ألمانيا.
- إزاء هذه المخاطر لن تقف ألمانيا مكتوفة الأيدي، بل تستعد للرد مع التأكيد على أن الحرب التجارية تضر بالجميع وبما فيها الولايات المتحدة الأميركية.
- غير أن الرد الألماني لن يكون منفرداً، وإنما في إطار الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر إحدى الكتل الاقتصادية الثلاث الكبرى في العالم.
وكما أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مراراً فإن الاتحاد الأوروبي يعتمد في هذا الشأن استراتيجية مزدوجة تقوم أولا على التلويح برد انتقامي متكافئ ضد رسوم ترامب العقابية مع ترك الباب مواربا للمفاوضات بهدف التوصل إلى حل وسط.
يضيف العبيدي: "من اللافت هنا إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية عن استعداد الاتحاد الأوروبي للتفاوض على إلغاء متبادل لكل الرسوم الجمركية في التبادل التجاري بين ضفتي الأطلسي. وهو مقترح يتماشى مع فكرة إيلون ماسك الملياردير المقرب من الرئيس الأميركي حول تصفير الرسوم الجمركية بين أميركا وأوروبا.. وعلى الرغم من رفض ترامب للمقترح الأوروبي إلا أن الاتحاد الأوروبي يعطي الأفضلية للحل التفاوضي وبما يجنب الاقتصاد العالمي من الوقوع في أزمة اقتصادية تضر بالجميع".
- بحسب خبراء الاقتصاد في دويتشه بنك في مذكرة يوم الاثنين، فإنه "على المدى القصير، سوف تكافح الحكومة الألمانية القادمة لتخفيف الصدمة التجارية الفورية"، مضيفين أن ألمانيا قد تواجه حتى عاماً آخر من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025.
- معهد إيفو للأبحاث الاقتصادية، ومقره ميونيخ، أفاد الأسبوع الماضي بأن تطبيق الرسوم الجمركية الأميركية بالكامل سيُلحق "ضرراً بالغاً" بالاقتصاد الألماني، وقد يُؤدي إلى انكماشه هذا العام. وأضاف: "ستتضرر بعض القطاعات الرئيسية، مثل صناعة السيارات والهندسة الميكانيكية، بشدة".
- رئيس معهد إيفو كليمنس فويست قال: "نظراً لأن الاقتصاد الألماني يعاني بالفعل من الركود، فمن الممكن أن تدفع الرسوم الجمركية الأميركية النمو الاقتصادي في ألمانيا إلى ما دون الصفر"، بحسب ما نقله تقرير "فايننشال تايمز".
العلاقات عبر الأطلسي
في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يؤكد رئيس المنظمة الألمانية الروسية للتنمية، عبد المسيح الشامي، أن:
- الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة ستكون لها تداعيات خطيرة جداً على الاقتصادين الألماني والأوروبي، حيث من المتوقع أن يكون تأثيرها سلبياً ودراماتيكياً على مختلف القطاعات الصناعية والتجارية.
- هذه الخطوة ستؤدي إلى تراجع التبادل التجاري بين ضفتي الأطلسي، الأمر الذي قد يعزز من الصناعة المحلية الأميركية، لكنه لن ينطبق على أوروبا التي تُعد من أبرز المصدّرين إلى الأسواق الأميركية والعالمية.
- العلاقات الاقتصادية الأوروبية الأميركية لم تكن في السابق تمثل تهديداً للصناعات المحلية، بل كانت تدعم بشكل كبير السوقين الألماني والأوروبي.
- السلبيات الناتجة عن هذا التصعيد التجاري ستتفاقم على المدى القريب والبعيد، في وقت بدأت فيه الأسواق الآسيوية، وعلى رأسها الصين، بالتحول إلى قوى صناعية مكتفية ذاتياً ومنافسة شرسة لأوروبا، ليس فقط في الصناعات الخفيفة، بل أيضاً في الصناعات الثقيلة مثل السيارات، حيث باتت الصين تستحوذ على حصة متزايدة في السوق العالمية.
ويشدد الشامي على أن أوروبا اليوم تواجه ضغطاً اقتصادياً متعدد الأبعاد، إذ تتلقى ضربات متلاحقة من شريكها الرئيسي، الولايات المتحدة، في وقت لم تتعافَ فيه بعد من أزمات كبرى مثل الأزمة المالية العالمية 2008-2009، وأزمة جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا التي لا تزال تلقي بظلالها على القارة.
ويضيف "نحن أمام تصعيد اقتصادي خطير قد يؤدي إلى إضعاف ما تبقى من القوة الأوروبية في الأسواق العالمية، وربما إلى انهيار اقتصادي شامل يفقد القارة دورها السياسي العالمي، نظراً لأن نفوذها السياسي كان دائماً يستند إلى قوتها الاقتصادية. أما اليوم، فإن هذه القاعدة باتت مهددة بشكل حقيقي".
ويحذر من أن استمرار هذه السياسات الأميركية سيؤدي إلى خلخلة التوازن العالمي، ويفتح المجال أمام القوى الآسيوية، مثل الصين وروسيا واليابان وكوريا، لتتقدم بثبات على حساب الدور الأوروبي، اقتصاديًا وسياسياً.
هل يستسلم ترامب؟
وفي سياق متصل، قال وزير الاقتصاد الألماني بالإنابة روبرت هابيك يوم الخميس الماضي، إن الرئيس الأميركي "سيستسلم تحت الضغط" ويغير سياساته الجمركية إذا اتحدت أوروبا.
وأفاد خلال مؤتمر صحافي، بحسب ترجمة قناة "سي إن بي سي" الأميركية: "إن هذا الضغط يحتاج الآن إلى أن يتم إطلاقه من ألمانيا، ومن أوروبا بالتحالف مع دول أخرى، وبعد ذلك سنرى من هو الأقوى في هذا الصراع"، مشيراً إلى أن " السماح لترامب بالاستمرار أو محاولة استرضائه لن يكون استراتيجية ناجحة تحت أي ظرف من الظروف".
وشدد على أن الهدف الاستراتيجي ينبغي أن يكون تجنب الرسوم الجمركية والحرب التجارية، لكن السؤال هو كيفية الوصول إلى هناك. وحث هابيك أوروبا أيضًا على القيام باستثمارات استراتيجية لتصبح أكثر استقلالية - على سبيل المثال من خلال تحسين البنية التحتية السحابية وتوسيع قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي والفضاء.
تُعدّ الولايات المتحدة الشريك التجاري الأهم لألمانيا، متقدمةً على الصين، حيث بلغ حجم التبادل التجاري - مجموع الصادرات والواردات - 252.8 مليار يورو (278.7 مليار دولار) بحلول عام 2024، وفقًا لمكتب الإحصاء الألماني (ديستاتيس). وفي العام الماضي، استحوذت الولايات المتحدة أيضًا على أكبر حصة من الصادرات الألمانية.
الاقتصاد العالمي
إلى ذلك، يوضح الكاتب والمحلل السياسي من برلين، الدكتور عبد الغني العيادي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" أن:
- فرض الرسوم الجمركية من قِبل إدارة ترامب لم يكن قراراً اقتصادياً عابراً، بل شكّل زلزالاً في بنية العلاقات الاقتصادية الدولية.
- بدأ ذلك من السياسات الحمائية التي رفعت من تكاليف الاستيراد والتصدير، مروراً بتعطيل سلاسل التوريد العالمية التي طالما اعتمدت على انسيابية التجارة بين القوى الكبرى.
- ردّت الصين بفرض رسوم انتقامية على سلع أميركية استراتيجية، مثل فول الصويا، مما ألحق خسائر فادحة بالمزارعين الأميركيين.
- كما تضطر شركات صناعية كبرى إلى إعادة هيكلة عملياتها ونقل جزء من إنتاجها إلى دول أخرى كفيتنام والمكسيك، لكن ذلك جاء بكلفة إضافية أضعفت من كفاءة الإنتاج.
- الأخطر من ذلك أن النظام التجاري العالمي بأسره تأثر سلباً، إذ استخدمت الولايات المتحدة ذريعة الأمن القومي لفرض رسوم حتى على حلفائها الأوروبيين، مما أضعف ثقة الدول في منظمة التجارة العالمية، وأظهر عجزها عن حل النزاعات وسط سياسات الهيمنة.
- كانت النتيجة اتجاهاً عالمياً متسارعاً نحو التكتلات الإقليمية، مثل الاتفاقيات الآسيوية، كبديل عن النظام متعدد الأطراف، مما ينذر بتحول التجارة العالمية إلى ساحة مجزأة تقوم على تحالفات طبقية.
ويستطرد: أما على الصعيد الاجتماعي، فإن من يرفع الرسوم الجمركية يتسبب في غلاء المعيشة، لأن الكلفة النهائية تُحمّل على المواطن، وهو من يدفع الثمن في شكل تضخم وارتفاع أسعار. وتتأثر الطبقات العاملة بشكل خاص، إذ تتضرر بشكل مضاعف، لأن اقتصاد العولمة يتطلب التوازن في اتخاذ مثل هذه القرارات، نظراً للترابط العميق بين اقتصادات العالم، حيث ما يحدث في الولايات المتحدة قد يمتد أثره إلى أوروبا وسائر دول العالم."