دول الجنوب العالمي المثقلة بالديون تحت ضغط الرسوم
10:16 - 09 أبريل 2025
تقف دول الجنوب العالمي عند تقاطع خطير بين الطموح بالتنمية والاستقرار، وبين سياسات تجارية تتسم بالهيمنة واللامساواة؛، في وقت تبرز فيه الرسوم الجمركية كسلاح اقتصادي تُشهره الولايات المتحدة في وجه الشركاء الأضعف، فتفرض قيوداً على صادراتهم وتزيد من كلفة انخراطهم في السوق العالمية، بما يفتح أبواباً جديدة لأزمات مركّبة في اقتصادات أنهكتها الأعباء المالية وقلّة الموارد وتراكم الديون.
من بين هذه التحولات، تتجه الأنظار إلى ما بات يُعرف بـ"الحروب التجارية الجديدة"، وهي سياسات تكشف بوضوح الفجوة المتنامية بين الشمال والجنوب، وتطرح تساؤلات واسعة حول عدالة النظام الاقتصادي العالمي ومآلاته المستقبلية.
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية، إلى أن رسوم ترامب الجمركية العقابية يبدو أنها قد تتحول إلى كارثة اقتصادية حقيقية بالنسبة للدول الصغيرة والمثقلة بالديون في الجنوب العالمي، مثل كمبوديا، حيث يعتمد نحو مليون شخص – معظمهم من النساء – على صناعة الملابس كمصدر دخل رئيسي.
أخبار ذات صلة
وينقل التقرير عن مدير البرامج في "مركز تحالف حقوق العمل وحقوق الإنسان" في كمبوديا، خون ثارو، قوله:
- "هذا الأمر فوضوي جداً.. إذا كان ترامب يريد من كمبوديا استيراد المزيد من البضائع الأميركية، فعليه أن يدرك أننا بلد صغير جداً".
- "الناس هنا قلقون جداً بشأن وظائفهم، وبشأن رواتبهم الشهرية، وهذا يؤثر بشكل كبير على سبل عيش أسرهم المعتمدة عليهم".
سياسات تدميرية مدروسة
من أكثر جوانب سياسة ترامب التجارية تدميراً هي فرضه لرسوم جمركية باهظة على دول آسيوية نامية مثل: كمبوديا بنسبة 49 بالمئة وبنغلاديش 37 بالمئة ولاوس 48 بالمئة، بحسب التقرير، الذي يشدد على أنه بعد عقود من دعم واشنطن لفكرة التنمية الاقتصادية من خلال التجارة، تتراجع الولايات المتحدة اليوم عن هذا الدور، وتخفض مساعداتها الخارجية، وتتبنى نهجاً قائماً على فرض الإرادة من جانب واحد على شركائها التجاريين، حتى وإن كانوا بلا قدرة حقيقية على المقاومة، بسبب حجمهم الصغير واعتمادهم الكبير على السوق الأميركية.
وقد سارعت كمبوديا يوم الجمعة إلى عرض خفض الرسوم الجمركية على السلع الأميركية، في محاولة لاسترضاء واشنطن.
لكن، وعلى عكس خطاب ترامب حول أن الولايات المتحدة "تُنهب"، فإن هذه الرسوم لا تتسم بأي شكل من أشكال "المعاملة بالمثل"، بل تُحسب بناءً على حجم العجز التجاري الأميركي مع كل دولة وقيمة صادراتها، وليس وفقاً لمبادئ عادلة.
أخبار ذات صلة
سريلانكا نموذجاً
من الأمثلة الأخرى، سريلانكا، التي لا تمثل اقتصادها سوى 0.3 بالمئة من حجم الاقتصاد الأميركي، تواجه الآن رسوماً بنسبة 44 بالمئة، رغم حصولها على دعم من صندوق النقد الدولي قبل عامين، واستمرارها في مفاوضات لإعادة هيكلة ديونها.
يقول أجيث دي بيريرا، رئيس غرفة التجارة والصناعة التابعة لاتفاقية التجارة لآسيا والمحيط الهادئ:
- "الوضع هش للغاية.. سريلانكا ستفقد جزءاً كبيراً من عائدات التصدير، وسيتضرر الناتج المحلي الإجمالي وفرص العمل – وهذا يحدث في وقت تخرج فيه البلاد بالكاد من حالة الإفلاس".
- "ربع صادرات سريلانكا تذهب إلى الولايات المتحدة، و70 بالمئة منها ملابس.. القرار الأميركي يهدد ركائز التعافي الاقتصادي لدينا.. وأعتقد بأن الحكومة بحاجة إلى بدء حوار مع صندوق النقد فوراً".
تصعيد أزمة الديون العالمية؟
ما يحذر منه بيريرا يمثل سيناريو مقلقاً لدول الجنوب المثقلة بالديون، إذ يمكن أن تسهم حرب ترامب التجارية في مفاقمة أزماتها المالية، خصوصاً إذا تزامن ذلك مع تباطؤ اقتصادي عالمي يقلص من قيمة صادراتها السلعية، وفق تقرير "الغارديان".
وفي وقت ينشغل فيه قادة دول الشمال، مثل كير ستارمر، بمعالجة تداعيات القرار الأميركي داخلياً، تزداد الحاجة إلى استجابة عالمية منسقة لحماية الدول الأضعف – وإن كان ذلك سيضطر لتجاوز واشنطن.
أخبار ذات صلة
شهدت السندات السيادية الدولية لعدد من الأسواق الناشئة عمليات بيع مكثفة مرة أخرى، اليوم الأربعاء، بعد أن دخلت رسوم جمركية أميركية كبيرة فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيز التنفيذ.
وأظهرت بيانات تريدويب أن السندات طويلة الأجل المقومة بالدولار لباكستان انخفضت أكثر من خمسة سنتات لتتراجع لما دون 70 سنتا وهو الحد الفاصل الذي يتم بعده اعتبار الدين متعثرا.
وذكر متعاملون بالسوق أن سندات سريلانكا ونيجيريا تراجعت بين 3.5 و4.5 سنت على الرغم من ضعف التداولات، بحسب وكالة رويترز.
الحروب الاقتصادية
من جانبه، يقول نائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات الإفريقية، رامي زهدي، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن:
- فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية متزايدة على وارداتها من عدة دول، بما فيها تلك التي تنتمي إلى "الجنوب العالمي"، يأتي في سياق ما يمكن وصفه بـ"الحروب الاقتصادية" التي تعيد تشكيل النظام التجاري العالمي، وتزيد من تعقيد المشهد أمام الدول النامية والمثقلة بالديون والتي تواجه تحديات وأزمات متعددة.
- تعتمد دول الجنوب العالمي، وخاصةً في إفريقيا وأميركا اللاتينية بشكل كبير على تصدير المواد الخام والسلع الأولية والمنتجات الزراعية. ومن هنا فإن الرسوم الجمركية الأميركية تؤثر مباشرة على تنافسية هذه الصادرات في الأسواق الغربية.
- ذلك يؤثر سلباً على هذه الدول، حيث يزيد من اتساع عجز الميزان التجاري، وتفاقم أزمة الديون الخارجية نتيجة ضعف القدرة على تحقيق موارد عملة صعبة وكذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب اضطراب سلاسل التوريد العالمية.
ويضيف: "إن الآثار المترتبة على هذه السياسات تسبب تراجعاً في قدرة الحكومات على الإنفاق في القطاعات التنموية والاجتماعية، مما يؤثر سلباً على مكافحة الفقر والبطالة، وارتفاع مستويات الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية، خصوصاً في الدول التي تشهد انتقالات سياسية أو حالة من الهشاشة الداخلية، وأيضا فقدان الثقة في النظام الاقتصادي الدولي، مما يفضي إلى تزايد التيارات المناهضة للنيوليبرالية والعولمة".
النيوليبرالية هي فلسفة اقتصادية وسياسية ظهرت في أواخر القرن العشرين، وتدعو إلى تعزيز دور السوق الحرة وتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد.
كذلك تأتي هذه السياسات الحمائية في وقت يعاني فيه الجنوب العالمي من سلسلة من الأزمات والتحديات، منها وعلي رأسها تداعيات جائحة كورونا والحروب الإقليمية مثل النزاع بين روسيا وأوكرانيا، علاوة على الأزمات المناخية التي تتجلى في الكوارث الطبيعية كالجفاف والفيضانات، وانتشار النزاعات الداخلية ومشكلات الأمن وغياب السلم الدولي، خاصة في مناطق مثل الساحل الإفريقي والقرن الإفريقي.
وكل هذه العوامل –وفق زهدي- تزيد من هشاشة تلك الدول وتعرضها لمخاطر الانزلاق نحو مزيد من الفوضى والانهيار الاقتصادي.
ويستطرد:
- الأمر الخطير أن القوى الدولية الكبرى لن تصمت على حرب الرسوم، بما يدفع لتطور الصراع الي مراحل صعبة سوف تؤثر بشدة على دول الجنوب أكثر.
- تتباين هذه التأثيرات من إيجابية مفيدة لصالح دول الجنوب إلى تأثيرات سلبية وضارة لها في حالات أخرى.
- على مستوى الجغرافيا الاقتصادية والسياسية، بدأت بعض القوى العالمية الأخرى في اتخاذ خطوات لموازنة تأثيرات هذه السياسات الأميركية، مثل تعزيز الشراكات التجارية التفضيلية مع دول الجنوب، خاصة من قبل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وضخ الاستثمارات البديلة عبر مبادرات استراتيجية مثل "الحزام والطريق"، وأيضا تقديم قروض ومساعدات بشروط مخففة مقارنةً بالشروط التقليدية التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية.
- ومع ذلك، فإن هذه البدائل قد تحمل في طياتها تحديات جديدة من حيث زيادة التبعية متعدد الأقطاب والتأثير علي القرار والإرادة والسيادة السياسية لدول الجنوب وقد تزيد من ارتباطها بشكل سلبي بعدد من الأقطاب الدولية الكبرى.
وفي ظل هذه المعطيات، تحتاج دول الجنوب إلى إعادة تقييم استراتيجياتها ومناصرتها الاقتصادية والسياسية عبر تعزيز التعاون والشراكات الإقليمية لإرساء التكامل المشترك وتقوية المواقف التفاوضية وكذلك العمل على تنمية القدرات الإنتاجية المحلية والتحول التدريجي نحو التصنيع لتقليل الاعتماد على تصدير المواد الخام، بالتوازي مع تنويع الأسواق والشركاء التجاريين بحيث لا تظل العلاقات الاقتصادية معتمدة على جهة واحدة، مما يوفر مجالاً أكبر للمرونة في مواجهة التقلبات العالمية.
تهديد واسع
ويحلل تقرير لوكالة "شنخوا" الصينية، بيانات لمنظمة التجارة العالمية، تشير إلى أنه في ظل التفاوتات الاقتصادية واختلال ديناميكيات القوة، ستؤدي سياسات التعريفات الجمركية الأميركية إلى تفاقم فجوة الثروة بين الدول، وستواجه الدول الأقل نمواً تداعيات وخيمة بشكل خاص.
ونقل التقرير عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ يي، قوله إن هذا التوجه يُشكل تهديداً كبيراً للجهود الرامية إلى تحقيق خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030.
ووفق المتحدث الصيني، فإن:
- فرض الولايات المتحدة لرسوم جمركية متبادلة من جانب واحد يحرم الدول، وخاصة تلك الواقعة في الجنوب العالمي، من حقها في التنمية.
- فرض الولايات المتحدة لمعدلات ضريبية متباينة ينتهك مبدأ عدم التمييز في منظمة التجارة العالمية، ويقوض بشدة النظام الاقتصادي والتجاري الدولي الطبيعي، فضلاً عن أمن واستقرار سلاسل الصناعة والتوريد العالمية.
أعباء ثقيلة
يقول خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- تُشكل الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الدول المختلفة ومنها دول الجنوب، عقبة كبيرة أمام اقتصادات تعاني أصلا من أعباء ديون ثقيلة.
- وفقاً لتقرير الأونكتاد (2023)، فإن الدول النامية دفعت 847 مليار دولار من الفوائد الصافية، بزيادة 26 بالمئة عن العام السابق عليه، ما يستهلك جزءاً كبيراً من ميزانياتها ويقيد قدرتها على الاستثمار في التنمية.
- على سبيل المثال، تواجه نيجيريا، صعوبات في تنمية صادراتها الزراعية بسبب الرسوم الجمركية.. وقد فرض ترامب أخيراً عليها رسوماً بنسبة 14 بالمئة.. ما يعيق بعض المنتجات، مثل الكاكاو والزنجبيل.. ويفاقم توقعات العجز لديها، بعد تأثر الصادرات سلباً، وبالتالي تضرر التنمية الزراعية وخطة الحكومة في هذا المجال.
- كذلك في أميركا اللاتينية تخسر بوليفيا فرص التصدير الحيوي لمنتجاتها الرئيسية الزراعية أيضا بسبب رسوم وتعقيدات جمركية أوروبية وأميركية في السابق.
- تسعى عديد من الدول المعرضة للرسوم إلى التواصل مع إدارة ترامب لإيجاد حل لهذه المعضلة (من خلال مفاوضات تجارية جديدة).
ويوضح أن الرسوم الجمركية تُفاقم اختلال الميزان التجاري وتدفع هذه الدول إلى الاستدانة بوتيرة أعلى مجدداً مما يضعها في دائرة مفرغة من العجز والتبعية الاقتصادية وعدم الوفاء بالتزامتها الداخلية والخارجية.
أخبار ذات صلة
هشاشة الاقتصاد
وإلى ذلك، يشير الباحث في العلاقات الدولية، خبير الشؤون اللاتينية، الدكتور محمد عطيف، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن:
- قرارات ترامب بشأن الرسوم الجمركية ستؤثر على دول الجنوب العالمي لاسيما المثقلة بالديون بشكل متعدد الأبعاد، فضلا عن ذلك ستسهم في تعميق الهشاشة الاقتصادية التي تعاني منها هذه الدول.
- هذا الإجراء الأميركي لا ينعكس فقط على حجم التجارة الثنائية، بل يضرب في العمق قدرة هذه الدول على توليد إيرادات من النقد الأجنبي، الأمر الذي قد يؤدي إلى الاختلال في الميزان التجاري.
- اقتصادات الجنوب العالمي تعتمد على تصدير المواد الأولية أو المنتجات المصنعة جزئيا ضمن سلاسل القيمة العالمية.
- هذه الرسوم ستقلص من قدرة هذه الدول على المنافسة في الأسواق الأميركية، وتؤدي إلى انخفاض الطلب على صادراتها، مما سيسهم ذلك في تراجع الإيرادات التجارية، وضعف الميزان التجاري و زيادة الاعتماد على الاقتراض الخارجي، في وقت تواجه فيه هذه الدول بالفعل أعباء ثقيلة من خدمة الديون.
ويضيف: تجدر الإشارة أن منطق العلاقات الدولية الاقتصادية الذي يتبناه ترامب قد يؤدي إلى تفاقم وتدهور الأوضاع الاقتصادية بهذه السياسات الجمركية كذلك من تقلبات أسعار الصرف، حيث يؤدي تراجع الصادرات إلى انخفاض احتياطيات النقد الأجنبي، وبالتالي ضغط متزايد على العملة المحلية، وهو ما يتسبب غالبا في موجات تضخم تؤثر بشكل مباشر على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.
ويختتم حديثه قائلاً: ما نشهده اليوم هو تجلي واضح للاختلالات البنيوية في النظام التجاري العالمي، حيث تستخدم أدوات السياسة التجارية – كالتعريفات الجمركية – بصورة تكرس التفاوت بين الشمال والجنوب، بدلا من أن تكون وسيلة لتحقيق توازن وإنصاف. ومن هنا، فإن التصدي لهذا النوع من السياسات يجب أن يكون جزءا من نقاش أوسع حول العدالة الاقتصادية العالمية وإصلاح نظام التجارة الدولي بما يضمن تمكين الدول المدينة من استعادة مساراتها التنموية، بدلا من الدفع بها نحو مزيد من التبعية والانكشاف .
