القطب الشمالي.. كنوز مدفونة تُشعل سباق القوى العظمى
07:56 - 01 أبريل 2025
تحوّل القطب الشمالي في الآونة الأخيرة إلى محور اهتمام عالمي، حيث يزداد حماس الحكومات والمستثمرين تجاه هذه البقعة الجغرافية المهمة، التي تقارب مساحتها 14 مليون كيلومتر مربع، والتي تخفي في أعماق بحرها وبرّها، احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، إلى جانب معادن حيوية للصناعات العسكرية، مثل التيتانيوم والبلاديوم وخام الحديد.
وحتى وقت قريب، بقيت هذه الثروات مدفونة في باطن الأرض، ليس لعدم إدراك الناس وجودها، بل لأن استخراجها كان مكلفاً للغاية، ولكن مع ذوبان القمم الجليدية في القطب الشمالي بسبب التحوّل المناخي، أصبحت عملية الوصول إلى هذه الكنوز الطبيعية أسهل، وهو ما يجعل من القطب الشمالي حالياً، ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا، وأيضاً الصين التي تسعى لتعزيز موطئ قدمها في هذه الرقعة الجغرافية الاستراتيجية.
وبالنسبة لبعض الحكومات والمستثمرين، لا يُعتبر وجود كوكب دون غطاء جليدي مأساة كبيرة، فذوبان الجليد في القطب الشمالي، قد يقلب وضع التجارة والطاقة في العالم رأساً على عقب، حيث سيؤدي هذا الأمر أولاً، إلى فتح ثلاثة مسارات بحرية جديدة هي، طريق البحر الشمالي (nsr)، الممر الشمالي الغربي (nwp)، وطريق البحر عبر القطب الشمالي (tsr). ويمكن لهذه الطرق أن تختصر الرحلات بين آسيا وأميركا الشمالية وأوروبا، التي تُمثل معظم عمليات الشحن في العالم.
كنوز دفينة تحت الجليد
كما أن ذوبان الجليد والأنهار الجليدية في القطب الشمالي سيُسهّل عملية استخراج المعادن من تلك المنطقة، في الوقت الذي يتوق فيه العالم للوصول إلى موارد جديدة، حيث تشير بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، إلى أن القطب الشمالي يحتوي على 1670 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وحوالي 90 مليار برميل من النفط، لتُعادل هذه الموارد نحو 13 بالمئة من احتياطيات النفط غير المكتشفة عالمياً، و30 بالمئة من احتياطيات الغاز الطبيعي غير المكتشفة.
كما كشف مسح أجرته هيئة المسح الجيولوجي في الدنمارك وغرينلاند خلال عام 2023 أن أراضي جزيرة غرينلاند الواقعة في القطب الشمالي، تحتوي على رواسب كبيرة لـ 38 معدن خام مثل الليثيوم والهافنيوم واليورانيوم والذهب والغرافيت والنيوبيوم والتيتانيوم، معظمها ذات مواصفات متوسطة وعالية، حيث تعتبر هذه المواد حيوية لكل شيء، بدءاً من الهواتف الذكية مروراً بالسيارات الكهربائية، وصولاً إلى المعدات العسكرية.
وبحسب تقرير أعدته "ذي إيكونوميست" واطلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، يوجد أيضاً تحت أراضي جزيرة غرينلاند، أكبر مخزونات للنيكل والكوبالت في النصف الشمالي للكرة الأرضية، وهذه المعادن ضرورية للبطاريات، حيث يقول مادس فريدريكسن، من المجلس الاقتصادي للقطب الشمالي، إن درجة حرارة القطب الشمالي أصبحت الآن أعلى بمقدار 0.75 درجة مئوية مما كانت عليه قبل عقد من الزمان، مشيراً إلى أنه بين عامي 2013 و2019، انحسر الجليد خلال فصل الصيف في القطب الشمالي بنسبة 17 بالمئة، وزادت حركة الشحن بنسبة 75 بالمئة، ومع حلول عام 2035، قد لا يتبقى أي غطاء جليدي في المنطقة خلال الصيف، وهو ما سيُسهّل عمليات التعدين بشكل كبير.
من يسيطر على القطب الشمالي؟
يُعدّ القطب الشمالي أقصى منطقة شمالية على وجه الكرة الأرضية، وفي إطار القانون الدولي، لا تمتلك أي دولة السيادة الكاملة عليه، حيث تخضع بعض المناطق الاقتصادية الخالصة في القطب، إلى سلطات الدول المطلة عليه، مثل روسيا وكندا والنرويج والدنمارك (عبر غرينلاند)، والولايات المتحدة.
وإضافة إلى هذه الدول، هناك اهتمام متزايد من الصين في القطب الشمالي، التي رغم عدم امتلاكها أراضٍ فيه، فإنها تطلق على نفسها "دولة قريبة من القطب الشمالي" وتستثمر في مشاريع بالمنطقة.
النفوذ الروسي
تعمل روسيا بهدوء منذ أكثر من عقد من الزمن على تعزيز وجودها في القطب الشمالي، وهي تتمتع الآن بأكبر حضور عسكري في المنطقة، وتملك أسطولاً كبيراً من كاسحات الجليد التي تعمل بالطاقة النووية، والتي تتيح التحرك في تلك المنطقة، وبحسب دراسة أجرتها جامعة Oulu الفنلندية، فإن روسيا تستحوذ على ما بين 50 إلى 60 بالمئة من إجمالي استثمارات القطب الشمالي، حيث يخصص معظم رأس المال على استخراج الموارد والبنية التحتية للنقل.
وفي عام 2024، شحنت روسيا حوالي 38 مليون طن متري من البضائع، عبر طريق البحر الشمالي الروسي (NSR)، وهو رقم قياسي لعام واحد، وزيادة تُقارب عشرة أضعاف عن العقد السابق.
ومع ذلك، فإن طريق البحر الشمالي لا يزال أمامه مشوار طويل قبل أن يصبح ممراً بحرياً عالمياً، بسبب تحديات مثل المياه الضحلة المليئة بالجليد والظروف الضبابية التي تحيط بالمنطقة.
غرينلاند مفتاح النفوذ الأميركي
بدورها تحاول الولايات المتحدة تعزيز نفوذها في منطقة القطب الشمالي، حيث تكثر التكهنات بالخطوات التي يمكن للرئيس الأميركي اللجوء إليها، وتحديداً تلك المرتبطة بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند الواقعة القطب الشمالي، وهو الذي كان اقترح ذات مرة، أن تشتري أميركا غرينلاند من الدنمارك، ولم يستبعد ترامب احتمال استخدام القوة في ذلك.
ولا عجب أن جزيرة غرينلاند، في طريقها لأن تصبح نقطة توتر جيوسياسي، بسبب موقعها الاستراتيجي وإمكاناتها، التي تجعلها لاعباً محورياً في اقتصاد القطب الشمالي المتطور، فالجزيرة تمتلك احتياطيات هائلة لـ 43 معدناً من أصل 50 معدناً، تُصنّفها الحكومة الأميركية على أنها بالغة الأهمية.
وتبلغ احتياطيات غرينلاند من المعادن النادرة 42 مليون طن، أي ما يزيد بنحو 120 مرة عن إجمالي ما تم استخراجه عالمياً في عام 2023.
وبالنسبة لأميركا فإن أهمية غرينلاند تتجاوز مسألة المعادن، بل تشمل أيضاً القوة والنفوذ والقدرة على تشكيل مستقبل التجارة والأمن العالميين، فالجزيرة تحتل موقعاً رئيسياً على طول طريقين محتملين للشحن في القطب الشمالي - الممر الشمالي الغربي والطريق البحري عبر القطب الشمالي.
كما أنه وبحسب رويترز، ترى أميركا أن القطب الشمالي يُمثّل منطقة حيوية في استراتيجيتها لتأمين القوة العسكرية والاقتصادية، بما في ذلك نظام الإنذار المبكر ضد الهجمات النووية.
طريق الحرير القطبي
بدورها ركزت الصين بشكل متزايد على القطب الشمالي في السنوات الأخيرة، حيث أعلنت نفسها في عام 2018 "دولة قريبة من القطب الشمالي"، وطوّرت مصالح في مجالات الصيد والطاقة والنقل في المنطقة، وبحسب "بلومبرغ"، تنظر بكين إلى احتمال وجود طرق شحن جديدة على أنه عنصر أساسي في استراتيجيتها، التي تتصور طريق حرير قطبياً، يربط بين شرق آسيا وأوروبا الغربية وأميركا الشمالية، وهو ما يُشكل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة.
تقارب بعد توتر
وفي أواخر العام الماضي، أصدر البنتاغون استراتيجية جديدة للقطب الشمالي سلّطت الضوء على خطر التعاون بين الصين وروسيا في المنطقة. وبموجب سياسة عهد بايدن، سعت الولايات المتحدة إلى توسيع جاهزيتها العسكرية ومراقبتها في القطب الشمالي، رداً على "التوافق المتزايد" بين موسكو وبكين، ولكن يبدو أن هذا الوقع قد يتغيّر خلال عهد ترامب، فبحسب "بلومبرع"، تستكشف الولايات المتحدة وروسيا امكانية التعاون الاقتصادي في القطب الشمالي، حيث تشمل المناقشات بين البلدين الموارد الطبيعية والطاقة، وطرق التجارة.
وهذا الإتجاه أكده الرئيس الروسي بوتين، عندما أشار في خطاب له، إلى أن نية الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعلنة للاستحواذ على غرينلاند "جدية"، وأن لا علاقة لروسيا بها، معرباً عن استعداد بلاده للتعاون مع شركاء أجانب، بمن فيهم الغرب، في مشاريع اقتصادية هناك تعود بالنفع على جميع الأطراف.
تحديات مرهقة للعمال
وبالنسبة للمستثمرين، توفر منطقة القطب الشمالي فرصاً هائلة في قطاعات مثل الطاقة والتعدين والبنية التحتية، ومع ذلك، فإن استخراج الكنوز من تلك المنطقة ليس بالأمر السهل، فحالياً أصعب شيء هو إقناع الناس بالعمل هناك، اذ يجب أن يكون الأجر باهظاً جداً لتعويض المشقة، وغياب أشعة الشمس لفترات طويلة، إضافة إلى البرد القارس والعزلة الاجتماعية شبه التامة، وهو الواقع الذي قد تخف وطأته خلال السنوات المقبلة بسبب التحّول المناخي.
ويقول خبير النفط والطاقة العالمي الدكتور ممدوح سلامة، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن سبب الإهتمام العالمي المتزايد في القطب الشمالي من قبل القوى الكبرى، هو وجود كميات ضخمة من الغاز والنفط في أراضيه، وهذا يعني أن الدول التي تُقدم مبكراً على تطوير ثروات النفط والغاز والمعادن الثمينة الموجودة هناك، ستستفيد في المستقبل وسيكون لها السبق في المجال الاقتصادي والدفاعي والاستراتيجي، مشيراً إلى أن روسيا بدأت الإنفاق في حصتها من منطقة القطب الشمالي في عام 2014، وهي حتى الآن استثمرت مئات المليارات من الدولارات على تطوير المشاريع هناك، ولذلك نجحت نجاحاً كبيراً في الوصول إلى اكتشافات ضخمة من الغاز والنفط.
ويكشف سلامة أن روسيا لديها مشروعان ضخمان في حصتها في القطب الشمالي، المشروع الأول يُسمى مشروع "فوستوك" للنفط وتقوم بتطويره شركة روسنفت التي اكتشفت في تلك المنطقة ما يزيد عن 50 مليار برميل من النفط، إضافة إلى ما يساوي 1300 تريليون قدم مكعبة من الغاز، حيث أنه إذا تمت إضافة هذه الكميات إلى الاحتياطي المؤكد لروسيا من النفط والغاز، تصل إحتياطيات البلاد إلى 158 مليار برميل من النفط و2600 تريليون قدم مكعبة من الغاز، لافتاً إلى أن المشروع الثاني يعرف باسم Arctic LNG 2 وتقوم بتطويره شركة Novatek التي تهدف من تطويرها لهذا المشروع، إلى رفع طاقة روسيا الإنتاجية والتصديرية إلى 100 مليون طن من الغاز السائل في عام 2033.
ويشدد سلامة على أنه من مصلحة روسيا وأميركا، ان تتعاونا في تطوير الثروات الموجودة في منطقة القطب الشمالي، التي ربما تحتوي على كميات ضخمة من المعادن الثمينة التي يحتاجها العالم، في مجال التكنولوجيا وفي كل المجالات الصناعية من مكوّنات الهواتف والحواسيب، مروراً بالصواريخ وصولاً الى الطاقة النووية، مؤكداً أن الاقتصاد العالمي سيستفيد جداً من الثروات الموجودة في القطب الشمالي، ولكن للأسف سيكون المستفيدون بشكل كبير، من الدول القادرة اقتصادياً ومالياً على الإنفاق على التنقيب عن هذه المعادن.