الاقتصاد الهندي تحت المجهر.. بديل واعد أم طموح مبالغ فيه؟
10:10 - 20 أبريل 2025
في خضم الحرب التجارية التي أطلق شرارتها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد الصين، بدأت تلوح في الأفق فرص استراتيجية لدول صاعدة تبحث عن موطئ قدم أقوى في الاقتصاد العالمي.
تبرز الهند كأحد أبرز المستفيدين المحتملين من هذا التوتر المتصاعد، مستندة إلى موقعها الجغرافي، وقاعدتها الصناعية المتنامية، وطموحاتها في التحول إلى محور صناعي بديل عن الصين في سلاسل التوريد العالمية.
تشكل المنافسة الحادة بين واشنطن وبكين على النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي فرصة لنيودلهي لإعادة التموضع على خارطة الاستثمار العالمي. ومع انتقال العديد من الشركات الكبرى لإعادة النظر في اعتمادها المفرط على السوق الصينية، تتجه الأنظار نحو الهند كوجهة واعدة لتوطين التصنيع، خاصة في قطاعات الإلكترونيات، والبطاريات، والأدوية، والتكنولوجيا المتقدمة.
لكن على الرغم من الزخم السياسي والاقتصادي الداعم، فإن استفادة الهند من هذا التحول ليست مضمونة بالكامل، بل تتوقف على قدرتها على تجاوز تحديات البنية التحتية، وتوفير مناخ أعمال أكثر جاذبية، وضمان الاستقرار التنظيمي والتشريعي.
ويشير تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنه:
- "حتى عندما كانت الهند تواجه خطر فرض رسوم جمركية بنسبة 27 بالمئة على معظم صادراتها إلى الولايات المتحدة، رأى رجال الأعمال والمسؤولون الحكوميون في ذلك فرصة سانحة، بينما الصين، أكبر منافس اقتصادي للهند، ومنافسيها الأصغر مثل فيتنام، كانوا يواجهون وضعاً أسوأ".
- بذلت الهند جهوداً حثيثة في السنوات الأخيرة لكي تصبح بديلاً صناعياً للصين، وبدا الأمر كما لو أنها اكتسبت ميزة مفاجئة.
- وبعد ذلك، حصلت الهند ومنافسيها الأصغر على مهلة 90 يوما، وضاعف الرئيس ترامب الرسوم الجمركية على الصين، فرفع تعريفاتها الجمركية إلى 145 بالمئة.
وقال برافين خانديوال، عضو البرلمان عن الحزب الحاكم الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي وشخصية بارزة في جماعات الضغط التجارية في البلاد، إن الضريبة المرتفعة للغاية على الواردات الصينية إلى أميركا قدمت "فرصة كبيرة للتجارة والصناعة في الهند".
- تسعى الهند، بقوتها العاملة الهائلة، منذ زمن طويل إلى التنافس بقوة على قطاع التصنيع في الصين، إلا أن مصانعها ليست جاهزة بعد.
- على مدى السنوات العشر الماضية، سعى مودي لتحقيق هدف أطلق عليه اسم "صُنع في الهند".
- قدمت الحكومة حوافز للشركات المنتجة للسلع في القطاعات الاستراتيجية، بميزانية تجاوزت 26 مليار دولار، وسعت إلى جذب الاستثمارات الأجنبية بدعوى تقليل اعتماد الهند على الواردات الصينية.
- كان أحد أهدافها خلق 100 مليون وظيفة جديدة في قطاع التصنيع بحلول عام 2022.
- نجحت الهند في تحقيق بعض التقدم في هذا السياق، بما في ذلك أن شركة فوكسكون، المُصنِّعة المُتعاقدة التايوانية، بدأت تصنيع هواتف آيفون لشركة آبل في الهند، ناقلةً بعض أعمالها من الصين.
- ومع ذلك، انكمش دور التصنيع في الهند على مدى عقد من الزمان، مقارنة بالخدمات والزراعة، من 15 بالمئة من الاقتصاد إلى أقل من 13 بالمئة. بينما يُعتقد بأن التصنيع والوظائف التي يمكن أن يوفرها أمرٌ حاسمٌ لصعود الهند كقوة عالمية.
عوامل الاستفادة
يقول استاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن الهند يمكن أن تستفيد من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، في ظل تصاعد التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.. وهناك عدة أوجه للاستفادة:
- تحول الاستثمارات وسلاسل التوريد: مع سعي الشركات العالمية لتقليل اعتمادها على الصين، ستبدأ بعض هذه الشركات في نقل مصانعها أو جزء من إنتاجها إلى دول بديلة مثل الهند وفيتنام.. يأتي ذلك في وقت تقدم فيه الهند سوقاً ضخمة وأيدي عاملة رخيصة، مما يجعلها خياراً جذاباً.
- زيادة الصادرات الهندية: عندما تفرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على السلع الصينية، تبحث الشركات الأميركية عن موردين بديلين، وهنا تبرز الهند كمصدر محتمل لسلع معينة مثل الأدوية، المنسوجات، الإلكترونيات البسيطة، وخدمات تكنولوجيا المعلومات.
- تعزيز قطاع التكنولوجيا: الحرب التجارية تشمل قيوداً أميركية على شركات صينية مثل هواوي، مما يفتح المجال أمام شركات تكنولوجيا هندية لتعزيز شراكاتها مع الشركات الغربية.
كما يتحدث في هذا السياق عن مجموعة من "المكاسب الجيوسياسية" التي يمكن للهند أن تقتنصها، لا سيما وأن التوتر الأميركي الصيني قد يدفع واشنطن لتقوية علاقتها مع نيودلهي كجزء من استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الصيني في آسيا، ما قد يؤدي إلى تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي.
لكنه في المقابل، يشدد على أن الهند بحاجة إلى تحسين بنيتها التحتية الصناعية وتبسيط بيئة الأعمال كي تستفيد فعليًا من هذا التحول العالمي.
مركز أعمال عالمي
ويشير تقرير لشركة mckinsey، إلى أن:
- الهند تجذب الأنظار كمركز أعمال عالمي.
- بفضل قاعدة قوية من المواهب، وقاعدة واسعة من المستهلكين، وبنية تحتية متطورة باستمرار، توفر البلاد فرصاً عديدة للشركات متعددة الجنسيات خلال العقد المقبل.
- وفقاً لأحد التقديرات، يمكن للهند أن تحقق مكاسب تتراوح بين 0.8 تريليون و1.2 تريليون دولار أميركي من تحولات تدفقات التجارة بحلول عام 2030، وأن ترفع حصة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من 16 بالمئة في عام 2023 إلى 25 بالمئة بحلول عام2030.
لكن كما هو الحال مع أي مشروع جديد، قد تواجه الشركات التي تتوسع في الهند تحديات غير متوقعة. فبينما تتبنى حكومة البلاد سياسات قوية داعمة للأعمال، قد تضطر الشركات إلى التعامل مع اللوائح المعقدة، والإضرابات العمالية، والروتين.
كما أن قاعدة المستهلكين الواسعة في الهند، مع تنوعها الكبير في تفضيلات المنتجات والقدرة الشرائية، قد تُشكل عقبات أمام التسويق والمبيعات. وقد ازدهرت بعض الشركات متعددة الجنسيات في الهند رغم هذه العقبات، بينما قلصت شركات أخرى، أو حتى أوقفت، عملياتها المحلية.
ووفق التقرير، فقد تبدو خريطة الطريق نحو النجاح في الهند محفوفة بالتحديات أحيانًا، لكن الشركات التي تتبنى رؤية بعيدة المدى وتثابر، يمكنها في الوقت نفسه تحسين التكاليف، وتقليل المخاطر، والحصول على حصة أكبر في واحدة من أسرع أسواق العالم نموًا. في أفضل الأحوال، لن تكون الهند مجرد موقع جديد للتصنيع، بل مصدرًا للابتكار وتطوير منتجات جديدة. ورغم غموض المستقبل، فإن الشركات التي تُرسخ وجودها في الهند أو تُوسّعه قد تُنشئ محرك نمو جديداً.
"الفائز المقصود"
وإلى ذلك، يقول الخبير الاقتصادي، عامر الشوبكي، لدى حديثه مع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
- الهند قد لا تكون فقط الفائز "غير المتوقع" مما يجري على الساحة العالمية، بل ربما تكون "الفائز المقصود" بالفعل من هذا التحول، أو على الأقل من بعض أبعاده.
- بروز الهند كطرف مستفيد ليس أمراً عفوياً.
- في ظل التصعيد التجاري بين الولايات المتحدة والصين، يبرز اسم الهند كفائز ربما مقصود ضمن استراتيجية تهدف إلى تحويلها إلى بديل صناعي للصين على خارطة التصنيع العالمي.
- بينما يفرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسوماً جمركية قد تصل إلى 145 بالمئة على واردات صينية، تستفيد الهند من هذا التحول القسري في سلاسل الإمداد العالمية، لا سيما في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا والطيران.
ويوضح الشوبكي أنه أصبح من المتوقع أن تُوجَّه طلبيات طائرات، كانت مخصصة لشركات صينية، إلى شركات هندية مثل "أكاسيا" و"إير إنديا إكسبرس". لكن يتعين الاخذ في الحسبان أيضاً أن صعود الهند لا يجري في فراغ، بل يحدث ضمن بيئة جيوسياسية معقدة، تتقاطع فيها علاقاتها مع الصين بين التعاون والتنافس الشرس.
ويشير إلى أنه بالرغم من محاولات بكين استمالة نيودلهي لتعزيز التعاون الاقتصادي ومواجهة الضغوط الأميركية، فإن التوترات الحدودية المزمنة والعداء الاستراتيجي العميق بين الجانبين لا تزال تحد من فرص التقارب الحقيقي.
ويضيف: "نلاحظ ميلًا واضحًا لدى الهند نحو تعزيز علاقاتها التجارية مع الغرب، وخاصة مع واشنطن ولندن والاتحاد الأوروبي، مدفوعة برغبة داخلية قوية لتحقيق نمو اقتصادي دون التورط في تبعية لأي طرف خارجي".
وفي هذا السياق، تبرز مجموعة "بريكس" كميدان اختبار حقيقي؛ فالتباين في المصالح والأولويات بين الهند والصين، إلى جانب التنافس على النفوذ الإقليمي والدولي، يهدد تماسك هذا التكتل، وفق الشوبكي، الذي يلفت إلى أنه رغم الخطاب الموحد الذي تصدره المجموعة "إلا أنني أعتقد بأن الهند لا تشعر بارتياح تام تجاه مشاركة الصين في صياغة أجندة اقتصادية عالمية بديلة، خصوصاً في ظل توسعها في مبادرة الحزام والطريق الذي تنظر إليه نيودلهي بريبة".
لكن هذا لا يعني أن الطريق ممهدة أمام الهند؛ فهي تواجه تحديات بنيوية كبيرة، أبرزها ضعف البنية التحتية، ونقص العمالة الماهرة، وتعقيدات الجهاز البيروقراطي، وهذه كلها عوامل قد تعيق تحولها إلى مركز صناعي عالمي فعلي، وفق الشوبكي، الذي يرى أن الهند في المحصلة تقف الآن في موقع الاستفادة المرحلية من هذا الصراع لكنها أمام اختبار حقيقي لتثبيت مكانتها كقوه صناعية مستقلة، وإذا ما نجحت فقد لا تكون مجرد بديل عن الصين بل ربما تصبح منافسها الأبرز خلال العقد المقبل.
تحول استراتيجي
يقول أستاذ العلاقات الدولية، الدكتور محمد عطيف، إن "الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ليست مجرد نزاع اقتصادي تقليدي، بل هي تعبير عن تحول استراتيجي عميق في موازين القوى الدولية"، مضيفاً أن استفادة الهند من هذه المواجهة لا يمكن اختزالها في مكسب تجاري مؤقت، بل يجب فهمها في إطار أوسع يعكس إعادة تشكيل النظام العالمي، حيث تحاول القوى الصاعدة ملء الفراغات الجيوسياسية الناجمة عن هذا التصعيد.
ويشير إلى أن نيودلهي تحولت، منذ بداية التصعيد الأميركي تجاه الصين، إلى محور اهتمام متزايد من القوى الغربية، ليس فقط بفضل إمكاناتها الاقتصادية وحجمها السكاني، وإنما أيضًا بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي وموقفها المتوازن في شبكة التحالفات الدولية. ويقول إن انخراط الهند في تحالفات مختلفة مثل Quad يعكس بوضوح دورها الجيوستراتيجي المتنامي ضمن استراتيجية واشنطن وحلفائها لاحتواء التمدد الصيني في آسيا.
ويؤكد أن ما حققته الهند يتجاوز الأبعاد الاقتصادية ليشمل مكاسب استراتيجية تتعلق بمكانتها المتقدمة كقوة صاعدة في ميزان القوى العالمي، مضيفاً أنه من اللافت أن نيودلهي لم تنجر إلى الاستقطابات الحادة بين الشرق والغرب، بل تبنّت سياسة توازن دقيقة، حافظت من خلالها على علاقاتها مع روسيا والصين، وفتحت في الوقت نفسه آفاق شراكات أوسع مع الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية.
ويختتم عطيف حديثه بالتأكيد على أن "الهند، رغم أنها لم تحل بعد محل الصين كمركز صناعي عالمي، إلا أن حضورها في معادلات النفوذ الدولي بات يتعزز تدريجياً، مدفوعاً بتلاقي مصالح الغرب في احتواء الصين مع طموحاتها في الصعود الجيوسياسي".
ويشير إلى أن الأمر لم يعد يتعلق فقط بإعادة توزيع الاستثمارات، بل بإعادة توزيع الأدوار والنفوذ في نظام دولي يتشكل من جديد، والهند أثبتت قدرتها على اقتناص اللحظة وتحويلها إلى تحول استراتيجي مستدام.