لبنان يفتح أبوابه للعالم بخطة استثمارية طموحة
03:53 - 11 يونيو 2025
في أروقة القصر الجمهوري ببعبدا، تتردد أصداء خطاب التفاؤل الحذر، بينما تستعد العاصمة بيروت لاستقبال وفود دولية في مؤتمرين استثنائيين تحت مظلة الرعاية الفرنسية. المشهد يحمل رمزية عميقة: لبنان يفتح أبوابه مجدداً للعالم، لكن هذه المرة بخارطة طريق مختلفة تماماً عن المحاولات السابقة.
الأرقام تتحدث بوضوح عن حجم الطموح الحكومي: 100 مليار دولار كاستثمارات مستهدفة على مدى 10 سنوات، مضاعفة الناتج المحلي إلى 60 مليار دولار، و7 مليارات دولار كتمويلات طارئة لقطاع الكهرباء وحده. أرقام تبدو "صعبة" لاقتصاد يترنح منذ سنوات تحت وطأة أزمة مالية عميقة، لكن الحكومة تبدو واثقة من قدرتها على تحويل هذا الطموح إلى واقع ملموس.
100 مليار دولار خطة استثمارية كبرى
تسعى الحكومة اللبنانية إلى تنفيذ خطة استثمارية متكاملة بقيمة 100 مليار دولار، تشمل مشاريع تنموية ضخمة في قطاعات حيوية كالكهرباء والبنى التحتية والخدمات، في محاولة لكسر الحلقة المفرغة للأزمة الاقتصادية التي يعانيها البلد. وتهدف الخطة إلى زيادة الناتج المحلي من 30 إلى 60 مليار دولار، مع تأمين تمويل طارئ بقيمة 7 مليارات دولار لقطاع الكهرباء، الذي يعاني من عجز كبير في الطاقة.
خطوات إصلاحية جذرية
أكد وزير الاقتصاد والتجارة الدكتور عامر بساط، في مقابلة مع برنامج "بزنس مع لبنى" على قناة سكاي نيوز عربية، أن لبنان يعكف على تنفيذ إصلاحات هيكلية جوهرية، تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحديث التشريعات المالية، ورفع مستوى الشفافية لمكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة. وأوضح أن الحكومة تعطي أولوية قصوى لحماية أموال المودعين، من دون المساس بحقوقهم.
دعم دولي واستقطاب شراكات
تسعى الحكومة إلى تنويع مصادر التمويل عبر التعاون مع المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى شراكات استراتيجية مع الدول العربية والخليجية. وأشار الوزير بساط إلى أن الحكومة تركز على جذب الاستثمارات الخاصة، التي تعتبر المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي، من خلال تحسين البيئة الاستثمارية وتسهيل الإجراءات.
وفي هذا السياق، أكد الوزير بساط أن لبنان لا يسعى للاستجداء، بل يقدم "فرصة استثمارية حقيقية"، موضحاً: "لبنان اليوم ليس طالب مساعدة، بل شريك في النمو والازدهار". وقد حرص في تصريحاته لبرنامج "بزنس مع لبنى" على التأكيد أن الحكومة اللبنانية تضع نصب أعينها تحقيق الشراكة مع المانحين والمستثمرين، لا تلقي التبرعات.
الإصلاحات الهيكلية... معركة البناء من الصفر
أبرز ما في أجندة الحكومة هو برنامج إصلاحي واسع النطاق يشمل ثلاث مراحل أساسية:
- رفع السرية المصرفية: وقد أُقرّ فعليًا، ويُعدّ، حسب الوزير بساط، "نقطة تحوّل تاريخية" تعزز قدرة المصرف المركزي على ضبط الفجوة المالية ومراقبة تدفق الأموال.
- إقرار إطار قانوني لمعالجة الأزمات المالية: بهدف تمكين الدولة من التعامل مع أي طارئ مشابه في المستقبل، وهو حاليًا قيد البحث في البرلمان.
- إعادة التوازن المالي: المرحلة الأهم والأكثر حساسية، وتتضمن إعادة هيكلة القطاع المصرفي دون المساس بودائع المواطنين، وهو ما أكده الوزير قائلاً: "لن يكون هناك اقتطاع من أموال المودعين... هذا خط أحمر".
وأضاف أن هذه الإصلاحات ليست فقط أدوات لاستقطاب الدعم الدولي، بل ضرورة بنيوية لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية، مشددًا: "إذا لم نعد الثقة، لن يعود الاستثمار، وإذا لم يعد الاستثمار، لن يعود النمو".
القطاع الخاص والمغتربون... حجر الزاوية في خطة الإنعاش
في حديثه، وضع الوزير بساط القطاع الخاص في قلب عملية النهوض الاقتصادي، مؤكدًا أن "النمو لن يأتي من الدولة فقط، بل من القطاع الخاص أولًا، ومن المغتربين اللبنانيين الذين يمتلكون شبكات مالية وعلاقات استثمارية ضخمة حول العالم".
ولفت إلى أن الحكومة تعول على هؤلاء الشركاء، سواء كانوا شركات استثمارية عالمية أو صناديق عربية أو حتى أفراد من الجاليات اللبنانية الناجحة، مضيفًا: "لبنان لا ينقصه المال، بل الثقة والحوكمة، ونحن بدأنا العمل على الاثنين".
الكهرباء والاتصالات: الأولوية لخفض كلفة الإنتاج
البرنامج الحكومي يولي اهتمامًا خاصًا للبنية التحتية، ولا سيما الكهرباء التي يرى بساط أن كلفتها المرتفعة هي أحد أبرز أسباب تعثر الإنتاج اللبناني، حيث قال: "أحد أهداف الإصلاحات هو خفض كلفة الإنتاج التي تتآكل بسبب غياب الكهرباء، ورفع تنافسية الاقتصاد اللبناني".
كما شدد على أن إصلاح البنية التحتية سيمتد ليشمل الاتصالات والنقل، إلى جانب العمل على إنهاء الاقتصاد الموازي وتهريب السلع، وهي عوامل يعتبرها حيوية للانتقال من اقتصاد هش إلى اقتصاد منتج وقابل للنمو.
التحديات السياسية حاضرة… ولكن
يدرك الوزير بساط أن البيئة السياسية اللبنانية والظروف الجيوسياسية لا تزال مضطربة، إلا أنه يراهن على وجود عهد سياسي جديد يعطي فسحة أمل، قائلًا: "لدينا رئيس جمهورية جديد بخطاب واضح، حكومة جديدة تضم تكنوقراط من القطاع الخاص، ودعم دولي وعربي لا يمكن تجاهله".
وأوضح أن لبنان يتعلم من تجارب دولية عدة في إعادة الهيكلة النقدية، محذرا من مخاطر التوسع في استخدام العملة المحلية لتغطية الودائع، قائلاً: "التحويل إلى الليرة ليس مستحبا لأنه يخلق تضخما... نريد استعادة أموال المودعين بالدولار".
المبادئ الثلاثة لإعادة هيكلة المصارف: حماية، شراكة، عدالة
تسعى الحكومة، وفقًا للدكتور بساط، إلى التوازن بين إعادة أموال المودعين وإعادة إحياء المصارف. لذا، تقوم الاستراتيجية على ثلاثة مبادئ:
- لا اقتطاع من مدخرات المودعين: وهي نقطة تمثل ضمانة سياسية واقتصادية لاستعادة الثقة.
- إعادة هيكلة القطاع المصرفي: ليكون شريكًا في النمو بدلًا من كونه عبئًا ماليًا.
- حل تشاركي للأعباء: بحيث يشارك كل طرف – الدولة، المصارف، البنك المركزي – وفقًا لقدراته، دون أن يتحمل أحدهم العبء الكامل، أو تُفرض أعباء إضافية على الدولة تُعيدها إلى حافة الإفلاس.
فرصة تاريخية: هل يعود لبنان "سويسرا الشرق"؟
تضع الحكومة اللبنانية أمام المانحين والمستثمرين رؤية اقتصادية تأمل أن تعيد للبنان موقعه التاريخي كمركز مالي واستثماري إقليمي. وفي هذا السياق، لخص الوزير بساط الرؤية قائلًا: "هناك إرادة عربية ودولية حقيقية لمساعدة لبنان، ونحن بدورنا ملتزمون بالإصلاح، كي نساعدهم في مساعدتنا".
ورغم الصعوبات، يرى بساط أن الفرصة الحالية "لا تُقدّر بثمن"، معتبرًا أن الدعم السياسي العربي والدولي، إلى جانب الخطة الإصلاحية، يمثلان نافذة قد لا تتكرر قريبًا، داعيًا الجميع إلى اغتنامها، قائلًا: "فتحنا الشباك بعد سنين من الشلل، فدعونا لا نضيّع الضوء".
التفاؤل الواقعي... شرط النجاح
بين الدعم الدولي المشروط، والجهود الحكومية الحثيثة، والمطالب الشعبية المتزايدة، يقف لبنان على مفترق طرق حقيقي. المؤتمر الدولي ليس نهاية المطاف، بل بدايته. فنجاحه مرهون بالترجمة الفعلية لخطة الإصلاح، وبأن يكون التعهد هذه المرة بداية فعل لا مجرد وعود.
ولعل الرسالة الأبرز التي خرج بها الوزير بساط من بيروت إلى العالم هي: "لن نستجدي... نحن هنا لنعيد لبنان إلى الخارطة، بثقة، وعقلانية، وإصلاح عميق".
وبينما تبقى التحديات كبيرة والمخاطر محدقة، تراهن الحكومة اللبنانية على أن الظروف الحالية تتيح فرصة نادرة للخروج من دوامة الأزمة وبناء اقتصاد جديد يستعيد مكانة لبنان الإقليمية. النجاح مرهون بتحويل الخطط إلى إنجازات ملموسة والوعود إلى حقائق على الأرض.