لماذا تسبق الشركات الأوروبية الناشئة نظيراتها الأميركية؟
12:50 - 10 يونيو 2025
يشهد الاقتصاد العالمي تحولات متسارعة وتوترات جيوسياسية متفاقمة تتغير في خضمها قواعد المنافسة بين الشركات على ضفتي الأطلسي، فبينما تسلط الأضواء عادةً على عمالقة المال والأعمال، برز في الآونة الأخيرة اتجاه مختلف يحمل دلالات عميقة حول عوامل النمو والقدرة على التكيف فيما يخص الشركات الأقل حجماً.
وفي هذا السياق، بدأت الشركات الصغيرة والمتوسطة في أوروبا تستقطب اهتمام المستثمرين والمؤسسات المالية الكبرى، وسط بيئة اقتصادية تزداد تعقيداً في الولايات المتحدة.
لم يأت هذا التغير من فراغ، بل يعكس تباينات هيكلية واستراتيجية بين النظامين الأوروبي والأميركي، ويفتح الباب لتساؤلات حول النماذج الاقتصادية الأكثر صلابة في زمن الأزمات.
تكشف بيانات وتقارير حديثة عن مسار لافت تسلكه الأسهم الأوروبية الأصغر حجماً، مقارنةً بنظيراتها الأميركية.. فيما يبقى السؤال: فهل هو تحوّل مؤقت في ضوء تداعيات السياسات الأميركية الاقتصادية الحالية، أم بداية لعصر جديد من إعادة تعريف مراكز الثقل في عالم الشركات؟
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية إلى أن:
- الأسهم الأوروبية الأصغر حجما تتفوق على نظيراتها الأميركية هذا العام مع مراهنة المستثمرين على انتعاش اقتصادي في حين يحاولون تجنب الشركات الأكثر تعرضا للحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
- يتدفق المستثمرون على الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم في أوروبا، بفضل انخفاض أسعار الفائدة ووعد بتعزيز النمو من خلال خطة التحفيز التاريخية الألمانية بقيمة تريليون يورو.
- على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، أسهم انتعاش وول ستريت من التراجع الحاد الذي شهده بعد إعلان الرئيس ترامب عن فرض رسوم جمركية شاملة في أوائل أبريل في دعم أسهم التكنولوجيا "الضخمة" في البلاد. أما الأسهم الأصغر، التي تميل إلى الارتباط بشكل أكبر بأحوال الاقتصاد المحلي، فقد تخلفت عن الركب.
- وهذا يعني أن التباعد هذا العام بين الأسهم الأوروبية والأميركية كان واضحا بشكل خاص بين الأسهم ذات القيمة السوقية الصغيرة والمتوسطة.
منذ بداية العام الجاري 2025، ارتفع مؤشر MSCI للشركات الصغيرة والمتوسطة في أوروبا بنسبة 10.7 بالمئة، في حين انخفض نفس المؤشر للولايات المتحدة بنسبة 2.6 بالمئة. وتشهد المؤشرات المكافئة للشركات الأكبر ارتفاعاً بنسبة 7 بالمئة في أوروبا و1.2 بالمئة في الولايات المتحدة.
ونقل التقرير عن رئيس أبحاث أسهم الشركات الصغيرة والمتوسطة في بيرنشتاين، ألكسندر بيترك، قوله: "لاحظنا اهتماماً متزايداً، لا سيما من المستثمرين الأميركيين، بأسهم الشركات الأوروبية متوسطة القيمة"، مضيفاً: "العملاء يبحثون عن أسهم عالية الجودة، غير مستغلة، ويفضل أن تكون مرتبطة بالإنفاق الأوروبي على البنية التحتية".
خطط التنمية
من لندن، يقول الخبير الاقتصادي، أنور القاسم، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
- الاقتصادات الأوروبية، صغيرها وكبيرها، تعتمد تاريخياً وعموماً على الشركات المتوسطة والصغيرة، التي تنعش الاقتصاد والتوظيف أفقياً وليس عمودياً كما تفعل الشركات الكبيرة.
- الشركات الأوروبية الصغيرة والمستثمرون يراهنون على خطط التنمية المحلية للنمو والانتعاش الاقتصادي.
- على الجانب الآخر، الشركات الأميركية غالبيتها كبيرة وتمتاز بالفروع الكثيرة والشبكات الخارجية، ولذلك تحاول دائماً السيطرة خارجياً كي تبقى مسيطرة في الأسعار والأرباح وأيضاً في مردود أسهمها في البورصات.
- هذه الشركات تدفع الآن أثمان الحرب الاقتصادية التي يقودها الرئيس ترامب وهي الأكثر تعرضاً وانكشافا على ارتفاع الضرائب التعرفات الجمركية.
ويضيف: "في أوروبا يتدفق المستثمرون على الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم البعيدة عن الأضواء، بفضل انخفاض أسعار الفائدة والاستقرار النسبي للشركات الأوروبية، التي تضمنها الحكومات الأوروبية وتعوض خسائرها تحميها من المنافسة الخارجية". كما يتعهد الاتحاد الأوروبي بنمو هذه الشركات من خلال خطة تحفيز تاريخية تبدأ بألمانيا بقيمة تريليون يورو.
ويستطرد: على الجانب الآخر فإن الشركات الصغيرة في الولايات المتحدة محكومة بانتعاش النمو والقوة الشرائية ومنافسة الشركات المتوسطة، إضافة إلى أسعار الفائدة، وارتفاع الضرائب.. وتميل هذه الشركات إلى الارتباط بشكل أكبر بأحوال الاقتصاد المحلي، الذي تحكمه الشركات الكبيرة، لهذا تتعرض لهزات اقتصادية كبيرة، ومنافسة شرسة من الصادرات الخارجية، وخاصة من التدفق الصيني الكبير رخيص الثمن، والذي يهدد بدوره الكثير من منتجات هذه الشركات.
بيانات
بحسب بيانات eurostat، فإن
بلغ عدد الشركات في الاتحاد الأوروبي 32.3 مليون شركة، توظف 160 مليون شخص في 2022. ومن هذا الإجمالي، شكلت الشركات الصغيرة والمتناهية الصغر 99 بالمئة.
وظفت الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر 77.5 مليون شخص، أي ما يقرب من نصف (48 بالمئة) إجمالي عدد العاملين في الشركات. وحققت مبيعات بقيمة 11.9 تريليون يورو، تمثل 31 بالمئة من الإجمالي (38.3 تريليون يورو).
مثلت الشركات المتوسطة، البالغ عددها 240 ألف شركة 0.8 بالمئة من إجمالي الشركات، حيث أسهمت بنسبة 15 بالمئة من العمالة و18 بالمئة من إجمالي المبيعات.
على الرغم من أن الشركات الكبيرة لم تمثل سوى 0.2 بالمئة من إجمالي عدد الشركات، إلا أنها وظفت أكثر من ثلث القوى العاملة في قطاع الأعمال (37 بالمئة)، وحققت أكثر من نصف (51 بالمئة) إجمالي المبيعات.
أداء تنافسي
من برلين، يشير خبير العلاقات الاقتصادية الدولية، محمد الخفاجي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن البيانات تُظهر أن الشركات الصغيرة والمتوسطة في أوروبا تحقق أداءً تنافسياً يتفوق في عدة جوانب أساسية على نظيراتها الأميركية، رغم الاختلاف في بيئة الأعمال بين الجانبين.. ويعود ذلك إلى عدة عوامل ومقومات، منها الاستدامة والمرونة.
ويستطرد: وفقاً لتقرير المفوضية الأوروبية للعام 2024، تشكّل الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر نحو 99 بالمئة من إجمالي الشركات في الاتحاد الأوروبي. وهذه الشركات تعتمد غالباً نماذج أعمال مرنة ومستدامة، مما يعزز قدرتها على التكيف مع الأزمات، مقارنة بالشركات الأميركية التي تميل إلى التركيز على النمو السريع والمخاطرة العالية.
ويتابع: من ناحية أخرى، يبرز الابتكار المحلي كعامل مهم، حيث أظهرت دراسة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في العام 2023 أن 42 بالمئة من براءات الاختراع الجديدة في أوروبا تصدر عن شركات صغيرة، مقابل نحو 27 بالمئة في الولايات المتحدة، مما يعكس قوة الابتكار المحلي لدى الشركات الأوروبية الصغيرة.
إلى جانب ذلك، يلعب الدعم الحكومي القوي دوراً رئيسياً في تعزيز هذه الشركات، إذ توفر دول الاتحاد الأوروبي برامج تمويل منخفض الفائدة وتسهيلات ضريبية واسعة النطاق. فعلى سبيل المثال مخصصات برنامج "Horizon Europe" لدعم البحث والابتكار، مع إعطاء أولوية للشركات الصغيرة والمتوسطة.
ويقول خفاجي إنه فيما يتعلق بالتوازن بين الربح والمسؤولية الاجتماعية، تظهر الشركات الأوروبية تفوقًا واضحًا مقارنة بنظيراتها الأميركية، حيث تركز على تحقيق توازن متين بين الربحية والاستدامة الاجتماعية والبيئية، ما يمنحها ثقة أكبر لدى المستهلك الأوروبي، في مقابل النموذج الأميركي الذي يركز بشكل أكبر على الربحية وتحقيق مكاسب المستثمرين.
ومن ثم، يمكن القول إن الشركات الأميركية تتفوق في التوسع والتمويل الاستثماري، بينما تحقق الشركات الأوروبية الصغيرة والمتوسطة أداءً أكثر توازنًا من حيث الابتكار والمرونة والاستدامة الاجتماعية، بدعم من سياسات حكومية رشيدة، مما يجعلها نموذجًا ناجحًا في الاقتصاد الحديث.