قفزة بـ 25% في 5 أشهر.. الذهب يصنع فصلاً جديداً في تاريخه
07:38 - 30 مايو 2025
في عالم اقتصادي تتسارع فيه الأحداث وتتقلب فيه الأسواق، يتقدم الذهب بثقة ليؤكد مجددًا أنه "ملاذ الأزمات" و"أصل الأمان" في مواجهة التضخم، النزاعات، وتذبذب العملات.
خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، سجّل الذهب أداءً غير مسبوق، متفوقًا على جميع الأصول الأخرى بنسبة صعود تجاوزت 25 بالمئة، في أعلى مكاسب فصلية يسجلها المعدن الأصفر منذ 18 عامًا. الأمر الذي جعل البنوك والمؤسسات المالية الكبرى تُعيد النظر في تقديراتها، وتراهن على سقوف سعرية جديدة تصل إلى 4000 دولار للأونصة وربما ما هو أبعد.
في هذا السياق، قدّم أندرو نايلور، رئيس قسم الشرق الأوسط والسياسة العامة في مجلس الذهب العالمي، رؤية متكاملة حول مستقبل الذهب، خلال مقابلة مع برنامج "بزنس مع لبنى" على قناة سكاي نيوز عربية، كاشفًا عن محركات الطلب الكبرى، العوامل الجيوسياسية الكامنة وراء الصعود، وتوزيع الطلب العالمي. وهذا التقرير يعيد تفكيك أبرز تصريحاته، ويقدم تحليلاً معمقًا للمشهد العام في سوق الذهب الذي دخل منعطفًا استثنائيًا.
ارتفاع تاريخي وتحولات استراتيجية
يُظهر أداء الذهب هذا العام أنه لم يعد مجرد "أصل بديل"، بل عاد ليصبح مرآة تعكس حجم القلق العالمي. فقد ارتفع سعر الأونصة من 2700 دولار في يناير إلى قرابة 3300 دولار حاليًا، بعد أن لامس ذروته التاريخية عند 3500 دولار في إبريل. هذا الارتفاع يعني مكاسب سوقية تقارب 4 تريليونات دولار، بحسب بيانات سكاي نيوز، وهو رقم يؤكد حجم الزخم الاستثماري الذي اندفع نحو المعدن الأصفر في بيئة مشبعة بالتضخم وتوقعات تباطؤ النمو العالمي.
تقول البنوك الكبرى مثل جي بي مورغان وبنك أوف أميركا إن هذا ليس سوى بداية موجة جديدة، مع رفع سقف التوقعات إلى 4000 دولار للأونصة في 2026. بينما ذهبت مؤسسات مثل "إنكريمنتوم" إلى أبعد من ذلك، متوقعة أن يصل الذهب إلى 8900 دولار في غضون أربع سنوات، ما يعكس رهانات قوية على تحولات هيكلية في الطلب العالمي.
الذهب يعكس مشهدًا عالميًا مضطربًا
في تحليله، أشار أندرو نايلور إلى أن "الطلب الاستثماري يُمثل اليوم 45 بالمئة من مجمل الطلب على الذهب"، مؤكدًا أن هذا الطلب تضاعف بنسبة 170 بالمئة منذ بداية العام. وهو رقم يعكس ميل المستثمرين الأفراد والمؤسسات إلى الابتعاد عن الأصول عالية المخاطر والبحث عن استقرار في بيئة تعج بالتقلبات.
وأضاف نايلور أن "البنوك المركزية تُشكّل اليوم نحو 20 بالمئة من الطلب العالمي"، مشيرًا إلى أن "هذه المؤسسات ضاعفت احتياطاتها من الذهب خلال السنوات الثلاث الماضية، كرد فعل على حالة عدم اليقين الجيوسياسي، وتراجع الثقة في الدولار الأميركي".
كما أكد أن "تراجع الدولار الأميركي من أبرز المحركات التي رفعت أسعار الذهب، في ظل التأثير المعاكس بين العملة الخضراء والذهب"، مضيفًا أن العلاقة العكسية بين أسعار الفائدة والذهب تجعل الأخير أصلًا دفاعيًا بامتياز في مواجهة سياسات التشديد النقدي.
تحولات جغرافية في الطلب: آسيا تتصدر المشهد
كشف نايلور عن أن "الطلب لم يعد موزعًا بالتساوي جغرافيًا، فآسيا تقود المشهد اليوم بوضوح". وأوضح أن "الصين تمثل أكبر سوق لاستهلاك الذهب، تليها الهند، ثم تأتي الولايات المتحدة"، مشيرًا إلى أن "الطلب الصيني على الذهب ارتفع بنسبة 46 بالمئة مقارنة بأمريكا الشمالية"، وهو ما يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في مركز ثقل الطلب العالمي نحو الشرق.
ووفقًا لأرقام مجلس الذهب العالمي، فإن الطلب الاستثماري على الذهب بلغ 1179 طنًا في 2024، بينما اشترت البنوك المركزية 244 طنًا خلال الفترة نفسها. ويُضاف إلى ذلك طلب متزايد من الصناعات التكنولوجية التي استهلكت 80 طنًا، إضافة إلى نمو ملحوظ في الطلب على المجوهرات الذي يُمثل حاليًا 33 بالمئة من إجمالي الطلب.
ذهب بلا ارتباط: ميزة استراتيجية في الأسواق
أحد أهم ما أبرزه نايلور في حديثه هو أن "الذهب يتميز بغياب الارتباط مع الأصول الأخرى، وهذا ما يجعله أصلاً فريدًا"، موضحًا أن المستثمرين يتجهون إليه في أوقات الأزمات لأنه لا يتحرك بنفس منطق الأسهم أو العملات أو العقارات.
كما أشار إلى أن "سوق الإمارات العربية المتحدة بات يُشكّل مركزًا عالميًا رئيسيًا لتجارة الذهب"، بما يتفوق في بعض النواحي على أسواق الصين والهند. ويُعزى ذلك إلى تطور البنية التحتية التجارية والمالية في الدولة، بالإضافة إلى ثقة المستثمرين بالمناخ الاستثماري المستقر فيها.
هل نحن أمام فقاعة أم إعادة تقييم؟
في خضم هذه الارتفاعات، يُثار تساؤل جوهري: هل أسعار الذهب تعكس فقاعة مؤقتة مدفوعة بالمخاوف، أم أنها تمثل إعادة تقييم حقيقية لدور المعدن الأصفر كأصل استراتيجي؟ التحليل يشير إلى أن الحافز هذه المرة ليس مضاربة قصيرة الأجل، بل تحول في توجهات البنوك المركزية، واستثمارات مؤسسية عميقة المدى، وطلب جغرافي متنوع.
ففي الوقت الذي بدأت فيه الاقتصادات الكبرى بإعادة بناء احتياطاتها الذهبية بعيدًا عن الدولار، وباتت فيه التقلبات السياسية عاملًا أساسيًا في معادلة الاستثمار، يعود الذهب ليؤدي وظيفته الأصلية: الحماية من المجهول.
لا يبدو أن بريق الذهب سيخفت قريبًا. فمع اتساع المخاوف الاقتصادية، وعودة الحديث عن الركود في اقتصادات غربية كبرى، واستمرار التحولات الجيوسياسية، فإن الرهان على الذهب لم يعد خيارًا بديلاً، بل أصبح ضرورة استراتيجية للعديد من الحكومات والمؤسسات. وكما قال أندرو نايلور، فإن "الذهب أصل متميز، لا يتحرك بمنطق السوق التقليدي، بل بمنطق الحاجة العميقة إلى الاستقرار في عالم متقلب".
في ضوء هذه المعطيات، فإن سقف 4000 دولار للأونصة لم يعد خيالًا استثماريًا، بل قد يكون محطة قريبة في رحلة الذهب نحو أرقام قياسية جديدة. والسؤال اليوم لم يعد: هل يرتفع الذهب؟ بل: كم سيتجاوز من الحواجز قبل أن يعيد العالم تعريف قيمة "الأمان الحقيقي؟"