معركة بنك إنجلترا ضد التضخم: هل يربحها أم يكسر الاقتصاد؟
02:39 - 29 مايو 2025في الوقت الذي بدأت فيه غالبية الاقتصادات الكبرى حول العالم تشهد تراجعاً ملحوظاً في موجة التضخم التي أعقبت الجائحة، تقف المملكة المتحدة وحيدة، تُقاوم التيار، وتُصارع ارتفاعاً عنيداً في الأسعار يُثقل كاهل الأسر والشركات على حد سواء.
أسعار الطاقة المرتفعة التي لم تعُد لمستوياتها ما قبل الجائحة، وشح اليد العاملة الذي يدفع الأجور صعوداً، بالإضافة إلى تداعيات "بريكست" التي لا تزال تُلقي بظلالها على سلاسل الإمداد، كلها عوامل تتضافر لتجعل من المشهد الاقتصادي البريطاني استثناءَ، مما يطرح العديد من التساؤلات فيما إذا كانت بريطانيا تستطيع كبح جماح هذا "البركان" المشتعل قبل فوات الأوان؟ وهل ستنجح "معركة" البنك المركزي في ترويض التضخم في ظل هذه التحديات، والأهم لماذا تسبح المملكة المتحدة عكس التيار العالمي؟
تأثير الغاز المستورد ونقص العمالة
تعتمد المملكة المتحدة بشكل كبير على الغاز المستورد لتلبية احتياجاتها من الطاقة، أكثر من معظم الاقتصادات الكبرى الأخرى. وقد شهدت أسعار الغاز البريطاني ارتفاعاً حاداً في عام 2022، ولم تعد إلى مستوياتها ما قبل الجائحة، وهو ما يحدد أسعار الكهرباء في أكثر من 90 بالمئة من الحالات، وذلك بموجب نظام "التسعير الهامشي" المتبع في المملكة المتحدة، حيث يحدد مصدر الطاقة الأكثر تكلفة السعر النهائي، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية.
لكن الطاقة ليست العامل الوحيد؛ فقد أدى نقص العمالة بعد الجائحة إلى تسريع نمو الأجور، وشارك موظفو السكك الحديدية والقطاع العام في إضرابات للمطالبة بأجور أفضل خلال وبعد صدمة التضخم. ولا يزال معدل النمو السنوي للأجور المنتظمة يرتفع بنسبة 5.6 بالمئة في الربع الأول من عام 2025، وهو أعلى من المستوى الذي يراه بنك إنجلترا متوافقاً مع هدف التضخم البالغ 2 بالمئة ونمو الإنتاجية بين 1 بالمئة و1.5 بالمئة.
عوامل حكومية وتداعيات بريكست
وأوضح التقرير أن الحكومة البريطانية ساهمت أيضاً في الضغوط التضخمية من خلال زيادة الحد الأدنى الوطني للأجور المعيشية، وهو الحد الأدنى الذي يجب على أصحاب العمل دفعه للموظفين الذين لا تقل أعمارهم عن 21 عاماً بنسب 9.7 بالمئة و9.8 بالمئة و6.7 بالمئة على التوالي خلال السنوات الثلاث الماضية، وفي أبريل 2025، فرضت الحكومة ضريبة رواتب بقيمة 26 مليار جنيه إسترليني (35 مليار دولار)، والتي يقوم بعض أصحاب العمل بتحميلها على العملاء عن طريق رفع الأسعار.
ويضيف التقرير: "على صعيد آخر، يرى العديد من الاقتصاديين أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) ترك بصماته على مشكلة التضخم. فقد أشارت أبحاث من كلية لندن للاقتصاد إلى أن ثلث تضخم أسعار الغذاء في المملكة المتحدة من نهاية عام 2019 حتى مارس 2023 كان سببه بريكست، بسبب التكاليف الحدودية الإضافية التي أضافت 7 مليارات جنيه إسترليني إلى فواتير البقالة.
وحذرت كاثرين مان، عضو لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا، من أن الحواجز التجارية الجديدة جعلت المملكة المتحدة "فريدة من نوعها" في هذا السياق.
تحديات الإنتاجية وتأثير أسعار الفائدة
وأشار التقرير إلى أن بريطانيا تواجه أيضاً مشكلة إنتاجية تتفاقم تدريجياً. فالقوة العاملة الأقل إنتاجية تنتج سلعاً وخدمات أقل بتكلفة أعلى لكل وحدة، مما يحد من قدرة الاقتصاد على النمو دون تأجيج التضخم. في الربع الأول من عام 2025، كانت الإنتاجية مقاسة بالناتج لكل عامل سلبية، حيث سجلت انخفاضاً بنسبة 0.7 بالمئة، وفقًا لمكتب الإحصاءات الوطنية.
ويعاني البريطانيون كذلك من تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، إذ يميلون إلى إعادة تمويل رهونهم العقارية بشكل متكرر أكثر من نظرائهم في الولايات المتحدة وأوروبا القارية، مما يعرض العديد من الأسر لارتفاع تكاليف الاقتراض التي فرضها بنك إنجلترا للسيطرة على التضخم. وعلى الرغم من تخفيض أسعار الفائدة أربع مرات من ذروتها البالغة 5.25 بالمئة في أغسطس 2023إلى 4.25 بالمئة، إلا أنها تنخفض بوتيرة أبطأ مقارنة بمنطقة اليورو.
وكان كبير الاقتصاديين في بنك إنجلترا، هيو بيل، أعرب أخيراً عن قلقه من سرعة تخفيض أسعار الفائدة في المملكة المتحدة، مما عزز مكانته كواحد من أكثر المسؤولين تشدداً في البنك المركزي البريطاني.
وشرح بيل، في وقت سابق من هذا الشهر، مناشدته إبقاء تكاليف الاقتراض دون تغيير، قائلاً "إنه لا يُفضل التوقف التام لخفض أسعار الفائدة، لكنه دعا إلى نهج أكثر "حذراً" من وتيرة الخفض ربع السنوية المُتبعة منذ الصيف الماضي.
وبحسب مكتب الإحصاءات الوطنية في بريطانيا، ارتفع معدل التضخم السنوي بأكثر من المتوقع في أبريل الماضي إلى 3.5 بالمئة من 2.6 بالمئة في مارس، وهو أعلى قراءة منذ يناير 2024 وأكبر زيادة في المعدل منذ عام 2022 عندما كان التضخم مرتفعا بشكل كبير.
مع الانفتاح المتجدد على الاتحاد الأوروبي لم يفت الأون للسيطرة على التضخم
ومن لندن يقول الدكتور ممدوح سلامة خبير الاقتصاد العالمي في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في إطار ما يُعرف بـ(البريكست)، وهي تعاني ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار. فقد كانت بريطانيا، حين كانت عضواً في الاتحاد الأوروبي، تتمتع بإمكانية الوصول إلى أحد أكبر التكتلات الاقتصادية في العالم، مما أتاح لها استيراد المواد الغذائية والسلع بأسعار مناسبة، ساهمت في استقرار مستويات الأسعار والحد من الضغوط التضخمية".
غير أن المشهد تبدل تماماً بعد الخروج من الاتحاد، إذ أصبحت الأسواق البريطانية تشهد ارتفاعاً متواصلاً في الأسعار، فيما عادت معدلات التضخم إلى الارتفاع رغم فترات من التراجع المؤقت، بحسب تعبيره.
ويضيف الدكتور سلامة: "إن الدين العام البريطاني يشهد بدوره ارتفاعاً مستمراً، حيث تضطر الحكومة إلى الاستدانة لتغطية نفقاتها، نظراً لعدم كفاية الإيرادات الضريبية لتلبية الاحتياجات الإنفاقية والتنموية. وهذا ما يفسر، عودة الحكومة نحو فتح قنوات التعاون مع الاتحاد الأوروبي بهدف كبح التضخم وتخفيف عبء الأسعار على المواطنين".
ويؤكد أن بريطانيا تجري حالياً مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي من أجل شراكة اقتصادية شبه كاملة، دون الإعلان صراحة عن "عودة" رسمية، مما يعني إزالة كثير من القيود التي فرضها البريكست وفتح المجال مجدداً أمام تجارة أكثر انسيابية، كما كان الحال عندما كانت بريطانيا عضواً بارزاً في الاتحاد".
ويرى الدكتور سلامة أن هذه الخطوة قد تسهم في تهدئة التضخم نسبياً، إلا أن النجاح الحقيقي في مواجهة الأزمة يتطلب من الحكومة تقليص نفقاتها بشكل ملموس، خاصة وأن الدين العام تجاوز نسبة 100 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويختم بالقول: "لم يفت الأوان بعد للسيطرة على التضخم، لاسيما مع الانفتاح المتجدد على الاتحاد الأوروبي، لكن تظل معالجة الاستدانة أولوية قصوى. فإذا لم تتخذ بريطانيا إجراءات جادة لخفض الدين العام، فإن مشكلة التضخم ستظل تؤرق اقتصادها لسنوات طويلة مقبلة، وربما إلى ما لا نهاية."
توقعات بعدم انخفاض التضخم حتى أبريل المقبل
من جانبه، قال علي حمودي الخبير الاقتصادي، المختص في الشأن البريطاني في حديث خاص لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "في الواقع، قد ينخفض التضخم في الاقتصادات الرئيسية الأخرى نحو هدف 2 بالمئة السحري، وهو ما تفضله البنوك المركزية العالمية الرئيسية، إلا أن التضخم في المملكة المتحدة وصل إلى أعلى مستوى له منذ بداية العام الماضي بعد موجة من زيادات الفواتير المؤلمة للأسر، وقد أكد ذلك مكتب الإحصاءات الوطنية (ONS) حيث قال إن تضخم مؤشر أسعار المستهلك بلغ 3.5 بالمئة في أبريل، مرتفعاً من 2.6 بالمئة في مارس، وهو أعلى مستوى منذ يناير 2024، كنا نتوقع ارتفاعاً في التضخم في أبريل بسبب ما يُسمى بـ (موجة أبريل المروعة) من زيادات الفواتير، على الرغم من أن الزيادة في مؤشر أسعار المستهلك كانت أكبر مما توقعه معظم الناس".
ويضيف حمودي: "يرجع السبب الرئيسي إلى ارتفاع سقف أسعار الطاقة الذي وضعته Ofgem بنسبة 6.4 بالمئة في أبريل، بعد أن انخفض قبل عام، إلى جانب مجموعة من زيادات الفواتير للأسر التي تعاني من ضغوط، بما في ذلك زيادات حادة في رسوم المياه، وضريبة البلدية (السكن)، وضريبة الطرق، ورسوم الهاتف المحمول والنطاق العريض".
وذكر أن بنك إنجلترا صرح مؤخراً بأن مؤشر أسعار المستهلك في طريقه إلى بلوغ ذروته عند 3.5 بالمئة، لكنه لم يتوقع حدوث ذلك حتى الربع الثالث من هذا العام.
وقال الخبير الاقتصادي حمودي: "في هذه المرحلة، ليس من الواضح ما هو تأثير التعريفات الجمركية العالمية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الأسعار والاقتصاد، أو ما سيحدث لنمو الأجور في المملكة المتحدة، وهو محرك رئيسي للتضخم، لذا، أرجح أن يبقى التضخم عند حوالي 3.5 بالمئة لبقية عام 2025 ولن ينخفض عن 3 بالمئة حتى أبريل من العام المقبل".
ويتوقع ألا يخفض بنك إنجلترا أسعار الفائدة في يونيو المقبل، بل يتوقع أن ينخفض سعر الفائدة الأساسي إلى 3.5 بالمئة بحلول فبراير 2026، بدلاً من نهاية هذا العام كما كان متوقعاً سابقاً.
متى سيخفض بنك إنجلترا أسعار الفائدة؟
وبالعودة إلى تقرير الوكالة الأميركية، فقد ذكر أن بنك إنجلترا يرفض تقديم تقدير لـ "المعدل النهائي"، وهو المستوى الذي ستستقر عنده تكاليف الاقتراض بشكل طبيعي إذا كان الاقتصاد يعمل بكامل طاقته وظل التضخم عند 2 بالمئة. لكن معظم الاقتصاديين يعتقدون أنه يتراوح بين 3 بالمئة و3.5 بالمئة. وقال آلان تايلور، العضو الخارجي في لجنة السياسة النقدية، إنه يعتقد أن "المعدلات ستستقر عند حوالي 2.75 بالمئة. مقارنة بالعقد الذي أعقب الأزمة المالية، عندما كانت المعدلات حوالي 0.5 بالمئة، يبدو هذا مرتفعاً. ومع ذلك، قبل عام 2008، نادراً ما كانت المعدلات أقل من 4.5 بالمئة".