طريق التنمية... ممر ذهبي يعيد العراق إلى الواجهة
07:06 - 30 مايو 2025
لطالما كان الاقتصاد العراقي أسيرًا لمعادلة واحدة: النفط مقابل الإيرادات. لكن مع تصاعد الدعوات إلى التحرر من أسر الاقتصاد الريعي، برز مشروع "طريق التنمية" كمبادرة استراتيجية طموحة، تعيد رسم موقع العراق على الخريطة الجيواقتصادية العالمية.
فبامتداد يتجاوز 1116 كيلومترًا من الجنوب إلى الشمال، وموازنة تقدّر بمليارات الدولارات، يحمل هذا الطريق وعودًا بتحويل العراق إلى ممر تجاري حيوي بين آسيا وأوروبا، وهو ما أكده الخبير الاقتصادي والمصرفي محمود داغر خلال ظهوره في برنامج "بزنس مع لبنى" على قناة سكاي نيوز عربية، حيث قدّم رؤية معمّقة لدور المشروع في كسر القيود التقليدية على الاقتصاد العراقي وإطلاق طاقاته التنموية الكامنة.
طريق التنمية: أكثر من مجرد مشروع بنى تحتية
بكلفة إجمالية تتجاوز 17 مليار دولار، منها 10.5 مليار دولار لإنشاء شبكة السكك الحديدية و6.5 مليار دولار لشق الطريق السريع، وُضع حجر الأساس لطريق التنمية باعتباره مشروعًا اقتصاديًا عابرًا للقارات يبدأ من ميناء الفاو الكبير في البصرة وينتهي على الحدود مع تركيا.
يضم المشروع بنية تحتية متكاملة من طرق سريعة وسكك حديدية، بقدرة تشغيلية تبلغ 35 مليون حاوية سنويًا من ميناء الفاو وحده، ويُتوقع أن يوفر 100 ألف فرصة عمل بحلول عام 2028، مع عائدات سنوية تصل إلى 5 مليارات دولار.
لكن الأهم من الأرقام هو التحول البنيوي الذي يعكسه المشروع في التفكير الاقتصادي العراقي، كما يؤكد داغر: "مشروع طريق التنمية هو المفر الحقيقي من الاقتصاد وحيد الجانب باتجاه التنويع، وهو ليس فقط ممكنًا، بل مفيد ليس للعراق وحده، بل للمنطقة بأكملها".
رؤية خبير لفرص وتحديات التحول اللوجستي
منذ طرح المشروع في عام 2022، كان محمود داغر من أوائل الداعمين له، ويصفه بأنه "مشروع واعد وممكن التنفيذ"، معتبراً أن نجاحه سيخرج العراق من عباءة "الاقتصاد النفطي شديد السلبية"، بحسب تعبيره.
وفي حديثه التفصيلي إلى برنامج "بزنس مع لبنى"، أوضح داغر أن الحكومة العراقية أسست شركة متخصصة، تجمع بين الخبرات المحلية والأجنبية، لتتولى تنفيذ المشروع، واستعانت بشركة الاستشارات الأمريكية "أوليفر وايمان" كمستشار فني واستراتيجي. هذه الخطوة، برأيه، تمثل نقلة نوعية في تعامل الحكومة مع المشاريع الكبرى من حيث التخطيط والتنفيذ.
"بدأت أدعم المشروع فكريًا منذ 2022، وازداد دعمي له بعد مؤتمر 2023 الذي شاركت فيه أطراف من الخليج وتركيا وشركات أجنبية أبدت إعجابها بالمبادرة"، بحسب ما أشار داغر، كما أكد أن "الفكرة لاقت تأييدًا واسعًا محليًا ودوليًا".
من الريع إلى التنوع... هل يعيد المشروع تعريف الاقتصاد العراقي؟
يمثل "طريق التنمية" نقطة تحوّل استراتيجية في فلسفة إدارة الموارد العراقية، عبر الانتقال من اعتماد شبه كلي على صادرات النفط، التي بلغت 99 مليار دولار في 2024، إلى تنويع مصادر الدخل من خلال تفعيل القطاعات اللوجستية، والصناعية، والتجارية.
العراق الذي ينتج حاليًا 4 ملايين برميل يوميًا ويستهدف الوصول إلى 6 ملايين، يمتلك احتياطيًا نفطيًا يبلغ 10.6 تريليون دولار.
غير أن داغر يرى في ذلك سيفًا ذا حدين، حيث يحذر من الاعتماد طويل الأمد على هذه الموارد دون بناء بدائل اقتصادية مستدامة.
"الاقتصاد الريعي لا يُبقي دولة على قيد الحياة في الأمد الطويل. لابد من ربط العراق تجاريًا بالمنطقة والعالم"، يقول داغر.
أبعاد جيوسياسية: العراق بين الخليج وتركيا
الموقع الجغرافي للعراق يشكّل حجر الزاوية في المشروع. يبدأ "طريق التنمية" من ميناء الفاو الكبير، الذي يتم تطويره بكلفة 4.6 مليار دولار، وهو مؤهل ليكون من بين أكبر عشرة موانئ في العالم، ويمتد نحو الشمال باتجاه تركيا، وصولاً إلى أوروبا.
داغر شدد على أهمية "الدفعة الأولى من الاستثمارات" التي يجب أن تكون عراقية مدعومة من الموازنة العامة، إلى جانب تنسيق استثماري إقليمي. ويرى أن الربط مع البنية التحتية المتقدمة في تركيا "يوفر قابلية واقعية لاستكمال الاتصال مع أوروبا"، مع الإشارة إلى أن "اللينك بين ميناء الفاو والقناة الجافة شمال الموصل هو الجزء الذي يجب التركيز عليه".
"يجب منح الشركات العراقية والأجنبية تفويضًا مشتركًا لتنفيذ أعمال الشق والإضافة والتطوير، فالبنية التحتية التركية جاهزة، والعراق هو الحلقة المفقودة التي ستُكمل السلسلة اللوجستية بين الخليج وأوروبا"، بحسب وصفه.
معركة التمويل والثقة: هل تستطيع الموازنة العراقية حمل المشروع؟
في ظل التحديات الاقتصادية والضغوط على الموازنة العامة، تطرح تساؤلات مشروعة حول قدرة العراق على تمويل المشروع خلال مراحله الثلاث، والتي ستمتد حتى عام 2050. لكن داغر يبقى متفائلًا، مستندًا إلى التحليل العقلاني للعوائد المحتملة:
"الموازنة العراقية، مهما واجهت من صعوبات، فإن العقل والمنطق والعائد الاقتصادي كلها تؤكد ضرورة إنجاز المشروع".
ما بعد الفاو... ولادة عراق جديد؟
لا يقتصر "طريق التنمية" في جوهره، على إنشاء ممر تجاري فحسب، بل يعكس محاولة جريئة لإعادة تعريف العراق كفاعل اقتصادي في الإقليم، وكحلقة وصل بين قارات العالم.
تصريحات محمود داغر تضع المشروع في إطار استراتيجي أشمل، يتجاوز الجغرافيا والخرائط إلى ما هو أبعد: كسر التبعية للنفط، وتحرير الاقتصاد من قيوده البنيوية، وصناعة مستقبل مختلف للعراق وشعبه.
فهل يكون هذا المشروع بداية لعراق متنوع اقتصاديًا، متصل عالميًا، وقادر على تصدير القيمة بدلاً من الوقود فقط؟
قد تكون الإجابة معلقة على مسار التنفيذ، لكن الطريق ... بدأ يُرصف.